بقلم: يوسف خليل السباعي.
ثمة أوقات لابد من تخصيصها للذات، للجسد، للمتعة!
وفي حقيقة الأمر، ما كنت أبحث عنه، كالحديث عن الأكل، التغذية، السفر، الصداقة، الحب، العلاقات الغرامية، المال، الغضب، عثرت عليه.
كتبت واحدة من الناس، سيدة، بالحرف: “قبل الفطور أقسم على التهام كل الشهيوات والعصائر ومالذ وطاب…”.
ثم، وبعد تفكير، كتبت: ” … ولكن بمجرد أن أشرب ملعقتين شوربة أوحريرة تستهزئ مني معدتي وتنتفخ مصاريني ويضيع نصف يوم من الاختراعات في المطبخ”.
من الأكيد أن هذه السيدة كانت تتحدث عن شهر الصيام. ولكن ثمة أمر مهم، لم ينتبه له أحد، إنها حولت الفعل، أي كل ماقامت به إلى خطاب، إنها توجه للقارئ مافعلته كتابيا، أي من خلال اللغة.
هكذا يتحول المطبخ: عالم المرأة، عالمها السري إلى فضاء متعة وإنهاك، كمثل الحياة وتناقضاتها، ويصبح الأكل شهوة، وعد، و إشباع لرغبة ناقصة، مع أنها توجه للقارئ خطاب، حيث تقول له: لاتفعل مثلي، وكفى!… ولكنها لاتأمر أحدا، لا يغدو هنا القول هو الفعل.
لكن في حالات أخرى، يصبح من يصوغ خطابا شفهيا ومرئيا عن التغذية بمكوناتها، وانطلاقا من “معرفة”ما، و”توجه” ما، (مع أننا نعرف، حتميا، أن ثمة أطراف متخصصين في التغذية، ويوجهون المرضى إلى وصفات الأكل التي ينبغي أن يتناولونها في اليوم، إلخ…، ولكن يبقى القرار الأخير في يد المريض. إن القضية هنا تتعلق أساسا بمايصلح في مجال التغذية لهذا المريض أو ذاك، وإذن، فإن القضية واضحة محصورة في مجال محدد هو الطب، أي ماهو علمي جوهريا)، قلت، من باب الاستدراك، يصبح معلما، بمعنى أنه يمتلك وحده المعرفة في التغذية، مع العلم أن المعرفة حقل شاسع ومركب، ولكن هناك البسطاء، والذين لا يملكون المعرفة في التغذية يصدقون كل مايقال لهم، مع أن المعرفة متاحة لمن يشمر على ساعده ويبحث، فالبحث طريق المعرفة، ولاننتظر من أحد أن يكون لنا معلما في مجال التغذية التي هي من أسس حياتنا، ولكن هذا لا يمنع من أن نجعل الآخر يتكلم، شرط أن يكون كلامه الذي يستعمله خطابا متوازنا وعقلانيا، ومفهوما، ذلك أن الكلام لاينبغي أخذه على عواهنه. إن أي كلام “معرفي” حول التغذية حالما يتحول إلى خطاب يوجه للمتلقي/ المشاهد، في بعض الحالات، من طرف المخاطب (بكسر الطاء) يستدعي عاملين: التأثير والتصديق، ولكن حين لايتأثر، لكونه صلبا، ومتعقلا، بله لايصدق المخاطب(بفتح الطاء)، بما أنه مبالغ فيما يذهب إليه من أقول أو إصدار للأقوال، أو أنه يخرف، في مايقوله له، فإنه، من المحتم، سيشيح بوجهه عنه وينتقده، أما إذا كان المتلقي/ المشاهد وديعا، طيعا، مسالما، لايفقه شيئا فإنه سينقاد له بسهولة، ويصبح تابعا له، ويصدق ذلك طواعية.
أتشهى الأكل، في حالة الجوع، لكن قد يشبعني بعض منه ما أن ينزل أمامي على المائدة، ولاأبالي بتوجيهات ما. كما أن النصائح أرمي بها من النافذة حتى لاتدخل من الباب ثم أغلق النافذة.
من ناحية أخرى، حين يكون الإنسان جائعا، هل سيستمع لترهات في التغذية، هاهي حالة، ولو أن الأمر يتعلق برواية، في ” البؤساء” لفيكتور هيجو عندما يخرج جان فالجان من السجن، وبعد بحث واضطهاد ومراقبة، يستقبله كاهن في بيته، يكون جائعا كثيرا، يأكل مثل وحش لما يطعمه الكاهن، ومع ذلك يسرقه بعد أن يأويه، وعندما يأتي به الشرطيان، يقول لهم الكاهن: إنني منحته ماسرق. عندما يكون الإنسان جائعا يأكل فحسب، لايهمه عوامل التغذية، أو تصنيفاتها، أضرارها أو منافعها.
وهاهي حالة أخرى، من السينما، في فيلم مصري قديم لعادل إمام، فيلم شهير، لم أعد أذكر عنوانه، يصاب عادل إمام، أقصد الشخصية، بمرض عضال، فيمنعه الطبيب من أكل مشهيات وأطعمة بعينها، يستدعي أحدهم ويجلسه أمامه ويطالبه بالأكل والافتراس، ليتلذذ بذلك، مع أنه لايأكل، يشتهي الأكل فقط، وهناك حكايات كثيرة عن الأكل، وغيره، ولكن أقول ضاحكا لتلك السيدة: أين تذهب كل اختراعات المطبخ؟!… وأرجو ألا تسيئ فهمي.
وصفوة القول، وهنا مربط الفرس، وعلى إثر هذا، أتذكر ذات يوم كنت قد استدعيت للقاء شارك فيه المفكر المصري حسن حنفي، وتغذينا في مطعم بالفنيدق، ولم يأكل حسن حنفي كثيرا كما فعلت السيدة المحترمة التي اكتفت بالقليل جدا، وبعد أن أتممنا الأكل، وبقي منه الكثير، قال: ” حرام أن يرمى كل هذا الأكل، والشعب…” .
ورفقا ببطونكم!