وداعا عزيزي الحسن، سأفتقد ابتسامتك !
ذهبت صديقي وأخي ورفيقي العزيز وتركت في القلب غصة وجرحا لن يندمل! أخيرا تنازلت للمرض اللعين بعد أن وقفت أمامه بعنادك الهادئ وواجهت ضرباته بالابتسامة وبحيويتك الاجتماعية المعهودة (إنشاء جمعية للعناية بمرضى السرطان، جمعية “السرطان كلنا معنيون”، بنفس حميمي وشبه عائلي أعاد البسمة لزملائك من المرضى)…
تعرفت على الحسن سنة 1972 في إطار تحركاتي النضالية الهادفة لاستقطاب بعض الشباب لتيار “الجبهة”. منذ البداية كنت على وعي بأن علاقتي به لن تنحصر في الجانب “الرفاقي” بل ستتعداه لما هو أعمق: صداقة وشبه أخوة. تعاطفت معه كثيرا لصفاء معدنه وطيبوبته وسخائه الإنساني وشجاعته (لم يكن يهاب القمع رغم كونه كان قد اعتقل وعذب خلال إضرابات التلاميذ لسنة) 1972 ولأننا كنا في سن متقارب ووضعية اجتماعية هشة متقاربة…
كتب الحسن في شهادة عني طلبتها منه لكي ينشرها أحد الكتاب الذي كان يعد كتابا حول “رجال تطوان”:
“تعرفت على عزيز سنة 1972، سنة التحولات السياسية والاقتصادية الكبرى، بالنسبة للنظام الحاكم آنذاك. تعرفت عليه بالضبط بعد يوم 16 غشت الشهير. تعرفت عليه بعد شهور مفعمة بالأحداث والانفعالات والتوترات. تعرفت عليه بعد سنة من الإضرابات والاضطرابات التي عرفها المغرب.
تعرفت عليه عن طريق ابن عمه محمد الطريبق، الذي جمعني معه الاعتقال في مظاهرة عيد العرش في مارس 1972، التي كنا نهدف من ورائها إلى تبليغ مطالبنا إلى الرأي العام.
… ففي كل مساء كنت ألتقي معه بشارع محمد الخامس ليطلعني عن أمور ونتائج تتعلق بالمؤتمر الخامس عشر للاتحاد الوطني لطلبة المغرب، الذي انفرد بقيادته تيار جبهة اليسار الطلابي، ثم يزودني بمعطيات تتعلق بالاشتراكية العلمية والسياسة التحريفية التي اتبعها الاتحاد السوفياتي والنهج الصحيح الذي اتبعه ماو تسي تونغ في الصين الشعبية وكذالك السياسة الإصلاحية التي ذهبت فيها الأحزاب الوطنية بالمغرب .
بدأت اللقاءات اليومية تتلوها لقاءات أخرى نلتقي فيها مع الأمين مشبال والطريبق أحمد. ثم مع هؤلاء وعبد اللطيف المرابط وعبد الباري الطيار والفارسي أحمد وعبد الكريم الكريم الشيكر وغيرهم .
لقاءات المجموعة كانت تتم في أماكن مختلفة، سانية الرمل، مرتيل، غابة “كرة السباع”. ومع بداية السنة الدراسية سافر عزيز إلى الرباط لمتابعة دراسته.
… بعد حظر الاتحاد الوطني لطلبة المغرب مع بداية 1973 عاد سي عزيز إلى تطوان ليستأنف عمله معنا لكن بكثير من الاحتياط ، خوفا علينا وعلى التنظيم. كان يبذل جهدا كبيرا في حمايتي، حتى لا أتعرض للاعتقال مرة ثالثة وأعرض معي رفاقي في التنظيم.
كنا نتنقل لأمكنة المواعيد بحذر كبير. كان يفرض علي كثرة الدوران والتيه عبر الأزقة والتأخر بساعة أو أكثر، حتى أتيقن باني لست متبوعا من طرف البوليس السري.
صنع الآلة الفيتنامية عند نجار بالمدينة القديمة. جربناها في دار مكرية بالقرب من ضريح الولي الصالح “سيدي الصعيدي”. استحضر الآلة و”الستانسيل”والمداد وفرشاة الصباغة. ما زلت أتذكر ذاك اليوم المضحك وكأننا عشناه اليوم. وبسبب انعدام التجربة والماء بالمنزل المكري، خرجنا ونحن ملطخين بالمداد الأسود، مثيرين انتباه الناس وفضولهم.
طبعنا المناشير الممنوعة بنفس الآلة، بعد اكتساب الخبرة، ووزعناها معا بالليل وفي أحياء شعبية خطيرة، كحي جامع المزواق، وحي جبل درسة ، وحي الصفيح بعقبة شاطة والعيون والمطامر…
عرضنا أنفسنا لهجومات الكلاب وللمشادات مع سكان الأحياء و”السيرينوس”، الذين كانوا يعتبروننا كلصوص وخارجين عن القانون. كان التعامل مع هذه الأنواع من الناس، بسبب عنف التهميش والإقصاء الممارس عليهم، أشرس من البوليس العادي. كانوا يستعملون الهراوات والحجارة والكلاب لينالوا منا.
ورغم دوامة المشاكل فقد لعبنا جيدا وبمتعة كبيرة ووجهنا ضرباتنا وبقوة. حققنا أهدافنا وانتصاراتنا!!!
قمنا بالمظاهرات في باب النوادر وفي العيون والغرصة الكبيرة والمصداع تضامنا مع الشعب الفلسطيني والشعوب المكافحة ضد الامبريالية الأمريكية العالمية… قمنا بطبع المجلات في ثانوية جابر ابن حيان بصرامة وحرفية عالية…”
غادرت تطوان فارا من الاعتقال سنة 1974 وولجت عالم السرية فانقطعت عني أخبار الحسن لسنوات. وكان الحسن قد لعب دورا أساسيا في تدبير منازل أختفي فيها بتطوان قبل هروبي نحو الدارالبيضاء (وهو أول من قصدته عند إفلاتي من قبضة البوليس في غشت 1974) بدون أدنى تردد ولا خوف، رغم أن الاعتقالات كانت قد مست مناضلين يعلمون بالتزامه التنظيمي…
بعد الاعتقالات الكبرى لسنوات 75 و76 (وقد أفلت منها الحسن) والمحاكمة ثم الحكم القاسي لم يعد أحد يقترب من عائلتي فانفض عنها أصدقائي وحتى بعض الأقارب (تفاديا “للمشاكل”) ولم يقترب مني في السجن لزيارتي سوى أفراد العائلة، وعدد جد ضئيل من الأصدقاء كسر جدار الخوف… عدا الحسن الذي لم يكن يعرف للخوف معنى والذي تحول إلى شبه فرد من عائلتي يزورها باستمرار.
عدت إلى تطوان بعد السجن، ولم يهتم أحدنا بمواقف الآخر السياسية، بل أعدنا ربط أواصر الصداقة والمحبة رغم ظروف الحياة التي باعدت بيننا… لم نكن نلتقي كثيرا، لكن صداقتنا لم تكن في حاجة كبرى لذلك. حاول معي كثيرا لجري قصد النشاط في جمعيته “السرطان كلنا معنيون” لكن ظروفي الخاصة لم تكن تسمح لي بالحضور الفعلي، ولست من هواة الصوري…
في اتصال أخير به عبر الواتساب، أخبرني الحسن بأنه طريح الفراش بمنزله، حينها تأكدت أنه دخل مرحلة نهائية من مرضه، فليس هناك من قوة تمنع الحسن على نشر ابتسامته وزرع حيويته في كل الاتجاهات. زرته بعد طول تردد لأنني لم أكن أرغب في إضافة ألمي لألم أسرته الجريحة، ولا شك أن الندم كان سيستبد بي لو لم أفعل…
ماذا عساي أن أقوله وقد رحلت أيها الصديق العزيز ذي القلب الطيب والحيوية الإنسانية المتدفقة؟ كنت من معدن خاص أيها الأخ والصديق العزيز ولم تتغير حتى في لهجتك التي ظلت كما هي رغم انتقالك للعيش في مناطق أخرى من البلاد.
عليك الرحمة ولذويك الصبر والسلوان