د. خالد الإدريسي: أي دور للمحاماة في النهوض بالنموذج التنموي الجديد

بقلم : د. خالد الإدريسي.

يثار دائما نقاش حول الدور المفترض لقطاع العدالة في تحقيق التنمية، من خلال قيامه بتشجيع الاستثمار والبت في النزاعات بطريقة عادلة وسريعة تمكن من المساهمة الايجابية في تحقيق إقلاع اقتصادي من خلال عملية زرع الثقة التي قد يبثها لدى المستثمرين المغاربة والأجانب في الاقتصاد الوطني وفي نموذجه التنموي.

وتعتبر المحاماة من أهم أضلع العدالة التي لها دور مهم ومؤثر في النهوض بمجال التنمية بمختلف أنواعها و تشكلاتها، من خلال الاختصاصات الحصرية التي منحها القانون القيام بها سواء في إطار الاختصاص المتعلق بالنيابة والتمثيل أمام المحاكم أو في إطار تقديم الاستشارات والمساهمة في حل النزاعات عن طريق الوسائل البديلة لتسوية المنازعات لا سيما في الميدان التجاري والاقتصادي.

ولكن يجب بداية الاعتراف أن السياسة التنموية التي اتبعها المغرب منذ الاستقلال إلى الآن عرفت العديد من الكبوات التي جعلت البلاد تعيش احتقانا كبيرا وغليانا شعبيا نتيجة انتشار العديد من المظاهر الاجتماعية السلبية متجسدة في ارتفاع نسبة الفقر والبطالة ووصول نسبة الهشاشة إلى مستويات مقلقة، وأيضا ركودا على المستوى الاقتصادي وتضخما على المستوى المالي، وقد ارتبط هذا الفشل التنموي بفشل سياسي وحقوقي جعل البلاد تعيش أزمة حقيقية نتجت عنها انتفاضة شعبية طالبت بإصلاحات سياسية عميقة، لم يتم التخفيف من حدتها سوى باستجابة أعلى سلطة بالبلاد لمطالب الشعب والقيام بتعديل دستوري جديد سنة 2011 وضع عقدا إجتماعيا جديدا مبنيا على وعود بإصلاحات سياسية وحقوقية واقتصادية. لكن رغم أهمية المبادرة فإن السنوات التي تلت هذا الإصلاح عرفت مزيدا من الفشل والانحدار سواء على المستوى السياسي و الحقوقي من جهة أو على المستوى الاقتصادي والاجتماعي من جهة ثانية. وهذا ما جعل العاهل المغربي يدعو في خطاباته الأخيرة إلى ضرورة إبتكار نموذج تنموي جديد يساهم في تحقيق طفرة نوعية في مجال التنمية ببلادنا، ومن أجل تفعيل هذا التوجه ودعمه مؤسساتيا تم إنشاء لجنة النموذج التنموي الجديد تتكون من مجموعة من الشخصيات التي راكمت تجارب من مختلف المجالات، وتم تكليفها بإرساء نموذج تنموي جديد إنطلاقا من تقييم للواقع وإقتراح الإستراتيجيات الكفيلة بإنجاح هذا النموذج التنموي الجديد، وقد اعتمدت منذ بداية عملها مقاربة تشاركية عن طريق الانفتاح على فعاليات المجتمع السياسي والمدني ومطالبتهم بتقديم مقترحات عملية للنهوض بالتنمية بمختلف أنواعها ببلادنا. وبغض النظر عن الانتقادات الموجهة للجنة وطريقة تعيينها والأشخاص الأعضاء فيها، فإنه يمكن القول أنها مبادرة إيجابية خاصة أمام العجز الواضح وفشل الرؤية وتغلب المصالح الذاتية الذي أبانت عنه المكونات السياسية في البلاد سواء كانت حكومة أو أحزاب سياسية.

ومادامت هذه اللجنة منفتحة وتعتمد مقاربة تشاركية ومندمجة فلا بأس من مناقشة دور المحامين في النهوض بهذا النموذج التنموي الجديد، لا سيما أن المحاماة تبقى من أهم المهن التي تؤثر وتتأثر إيجابيا وسلبيا بمجال التنمية. ولذلك يمكن التساؤل كيف يمكن لهذه المهنة النبيلة أن تساهم بدور إيجابي وفعال في خلق نموذج تنموي يتجاوز الأزمات والعثرات السابقة وينفتح على أفق أكثر قوة وعطاء بكل ما سينتج عنه من خير للبلاد والعباد ؟ وهل يمكن بالفعل لمهنة تعيش أزمة بنيوية حادة أن تساهم بالفعل في التأسيس لنموذج تنموي جديد أكثر تقدما وتطورا، أم أن الضعف الذي بدأ ينخر جسمها خاصة من الناحية المؤسساتية سيجعلها لاعبا ثانويا واحتياطيا في ملعب التنمية الجديد ؟

ينبغي التأكيد على أن مهنة الدفاع في جميع أقطار العالم لها دور مهم في تطوير النماذج التنموية في كافة البلدان التي تتواجد بها، حتى أن أغلب رؤساء الدول والشخصيات المرموقة التي تتحكم في دواليب السياسة والاقتصاد في العالم نجدهم في الغالب من زملائنا المحامين. كما أن الإطارات المؤسساتية والمهنية في هذه البلدان لا سيما في الدول المتقدمة لها كلمة مسموعة وتؤثر بشكل كبير على الشأن العام، بعكس دول العالم الثالث أو الدول السائرة في طريق النمو مثل المغرب التي تعيش فيها مهنة المحاماة أزمة حقيقية ناتجة عن أسباب ذاتية وموضوعية، ولذلك فالحديث عن دور لمهنة المحاماة في النهوض بالنموذج التنموي الجديد يبقى صعبا أمام الضعف الذي تعيشه المهنة، وأمام الاستهداف الذي تعيشه منذ مدة طويلة من أجل إضعافها وجعلها منشغلة فقط بمشاكلها الداخلية ومشاكل الأفراد المكونين لها. ولهذا فإنه إذا أردنا أن تكون للمحاماة دور مهم ومحوري وحيوي في النموذج التنموي الجديد فإنه لابد من تقويتها وتجويدها عن طريق القيام بمجموعة من الإصلاحات لفائدتها والتراجع أيضا على جميع الإجراءات والتدابير التي تزيد من إضعافها وتقهقرها.

نعم، إذا ما كانت هناك إرادة جدية للإصلاح فإنه ينبغي إشراك مهنة المحاماة في هذا المشروع الطموح، ومن أجل أن تكون مساهمتها إيجابية فإنه لابد من تقويتها وإزالة جميع أسباب الضعف والوهن التي تنتابها. ولعل من أهم المداخل التي تعيد للمهنة رونقها وقوتها هو التراجع عن “الإصلاحات” التشريعية التي تعمل على التضييق من عمل المحامي سواء في مشروع قانون المحاماة أو في مشاريع القوانين الأخرى لا سيما قانون المسطرة المدنية وقانون المسطرة الجنائية، والعمل على تقويتها سواء من جهة الاختصاصات والمهام أو من خلال الضمانات التي تجعل المحامي يقوم بعمله من دون تضييق لا سيما على مستوى دعم الحصانة والاستقلالية. كما ينبغي تفادي التدابير التي تزيد من أزمة المحاماة كالتعامل معهم من الناحية الضريبية بمنطق التجار، وإغراق المهنة بآلاف المترشحين الجدد وجعل المهنة وسيلة لحل مشكل البطالة الذي يعاني منه الكثير من شبابنا العاطل، وإضافة إلى ذلك يجب إلغاء المادة التاسعة من قانون المالية الحالي الذي يقنن بشكل سلبي مسطرة تنفيذ الأحكام ضد الدولة والإدارات العمومية ويجعل الأحكام والقرارات الصادرة عن القضاء الإداري مجردة من قوة الشيء المقضي به.

كما يجب أيضا دعم الحماية الاجتماعية للمحامي من خلال التغطية الصحية وأيضا على مستوى التقاعد، وتعديل مرسوم المساعدة القضائية بشكل يجعل التعويضات المستحقة عن المساعدة القضائية توازي أهمية المهنة وخطورة المسؤولية الملقاة على عاتق القائمين عليها، وأيضا دعم التكوين والتكوين المستمر من أجل تجويد الخدمات القانونية التي يقدمها المحامي، ولا سيما إنشاء المركز الوطني للتكوين الذي مازال حبرا على ورق.

كما ينبغي تشجيع إنشاء الشركات المدنية للمحاماة عن طريق مبادرات تسهل عملية خلقها ومنحها تسهيلات مالية وتفادي الازدواج الضريبي المطبق عليها حاليا، ولا بد أيضا من توفير الحماية اللازمة في مواجهة شركات المحاماة الأجنبية العملاقة التي بدأت تجد في المغرب مرتع خصب للعمل وتكريس منافسة غير متكافئة مع نظرائهم المغاربة، وعلى المستوى المؤسساتي فإنه من الواجب تقويتها ولو أن هذا الإشكال ذاتي وداخلي، إلا أن إنشاء مجلس وطني للهيئات وجعله ذو اختصاصات تقريرية واسعة وذو إستقلال مالي وإداري من شأنه أن يعيد المكانة المؤسساتية لمهنة المحاماة ويعيد لها قوتها الاعتبارية التي أصبحت شبه مندثرة نتيجة الضعف الذي تعرفه جمعية هيئات المحامين بالمغرب.

إن القيام بهذه الإصلاحات هو الشيء الأساسي المطلوب من أجل إعادة إحياء وتقوية مهنة الدفاع من أجل القيام بأدوارها السياسية والحقوقية والتنموية داخل المجتمع، ولكي تشكل رافعة أساسية ومتينة للنموذج التنموي الجديد الذي يبدو أن هناك إرادة رسمية راسخة من أجل تنزيله وتحقيق أهدافه. ومن غير القيام بهذه الإصلاحات فإنه لا يمكن لمهنة المحاماة من النهوض من كبوتها، ولا يمكن أن يكون لها أي دور يذكر في هذا النموذج التنموي الجديد، بل ربما ستكون بمثابة حاجز يعرقل مسلسل التنمية المنشود. وفي هذا الإطار نتساءل هل قامت المؤسسات المهنية سواء من خلال الجمعية أو الهيئات السبعة عشر الأخرى بتقديم مطالب ومقترحات للجنة النموذج التنموي من أجل تحديد العلاقة بين المحاماة والنموذج التنموي الجديد، أم الأمر سيقتصر كالعادة في لغة البيانات والبلاغات بعد أن تنتهي اللجنة من أشغالها ويتضمن تقريرها ما لا يسر بخصوص مهنتنا العتيدة.

Loading...