تأليف الكاتب والصحفي : يوسف خليل السباعي.
بين أشجار غابة “النيكريطو”، وفي صباح يوم صيفي، وهو يتمشى دون أن يحدد وجهته كتائه عثر أشرف على جثة امرأة في مقتبل العمر.
أحس بارتياع. ولم يقدر بداية على النظر بإمعان إلى الجثة… الجثة المشوهة…
كانت الجثة عارية. لكنه اقترب، ويداه ترتعشان.
كان الجسم الأبيض الأسيل المخدوش… الممزق…الغارق في الدم… قد بدأ لونه يميل إلى السواد، والوجه مشوه، كأن مطواة مزقت شكله.
حاول أشرف أن يتشجع، ويقترب أكثر فأكثر، إلا أنه تراجع، ونظر إلى الوراء بعدما توهم أنه سمع حركة غير عادية. لم يكن هناك أحد، لا وجود سوى للخواء، وللأشجار. وبجسارة، اقترب من الجثة… حرك رأسها… كان بها أثر للضرب.
لا أحد عرف أو سيعرف دافع وجود أشرف في الغابة في ذلك الصباح الصيفي. شيء لايمكن أن يجيب عنه إلا أشرف نفسه. إنه كثيرا ما ينسى دوافع وجوده في كثير من الفضاءات. وحتى عندما كان يسأله قرناءه عن الفضاءات الكثيرة التي كان يلجأ إليها… الغابات… المتاجر… النوادي… السينما… المقاهي… الأحياء… كان ينسى. لكنه هذه المرة لم ينسى أنه رأى جثة امرأة مقتولة.
ماذا سيفعل الآن؟… سؤال يبعث على التحير.
أحس أشرف بارتياع للمرة الثانية. وكان يود أن ينسى ما رأى. وبدأ يتألم، وضميره يفيق. أحس بصداع نصفي… صداع يكاد يجتثث رأسه. وتذكر رأس المرأة التي كانت آثار الضرب بادية عليه. أمر غريب أن يتذكر أشرف ذلك، هو الذي ينسى حتى في أي واد تجره رجليه. لكن هذه المرة ذهب إلى البعيد. إلى غابة النيكريطو، كأنما صوتا ما كان يناديه من بعيد.
شيء محير.
ما الدافع إلى خروجه من بيته بدرب بن سليمان؟ هل تشاجر مع زوجته؟… هل هرب من تسديد الديون المتراكمة عليه من البقال الذي كان يزعجه، وصاحب الكراء الذي كان يقرعه ويهدده برفع دعوى قضائية عليه إذا لم يسدد ما بذمته من دين؟ لا أحد عرف أو سيعرف الدافع لخروجه في ذلك الصباح من بيته، وقطع كل تلك المسافات على رجليه للوصول إلى الغابة. شيء لا يقدر على فعله سوى أبطال الأساطير القديمة.
جلس أشرف قرب الجثة المشوهة، وشرع يفكر. لم يعد يحس الآن بأي ارتياع. فكر في الاتصال بالشرطة، بيد أنه تراجع عن ذلك. قال في سره: ” إذا أخطرت الشرطة، لن يدعوني في حالي… لن أفلت قط من سين وجيم”. وقد يتهم بأنه القاتل. ماذا عساه أن يفعل؟ هل يدفن الجثة في الغابة، ويكتم هذا السر في قلبه إلى الأبد؟ إنه أمر سهل. قال في سره إنه سيتحول إلى قاتل حقيقي، مع أنه لا يقدر على قتل ذبابة، وهو غير مذنب. فكر في أن ينسى كل هذا، ويهرب. لكن صوتا في أعماقه كان يناديه بالبقاء قرب الجثة، وأن لا يتركها وحيدة، وعارية، في الغابة. لم يكن يخطر على بال أشرف أنه سيصادف بلاء كهذا في حياته، هو الوديع، الذي لم يؤذ أحدا في حياته كيف حل به هذا البلاء…
حمد أشرف الله على أن الغابة كانت خالية من البشر والطيور، لا أصوات، ولا حركات، أو أي شيء، سوى حرارة الشمس الملتهبة كالسعير.
ترك أشرف الجثة عارية، وهرب. عاد إلى بيته، وطلب من زوجته أن تدثره ببطانية غليظة لشعوره بالبرد، وهو شيء لم تستوعبه زوجته خصوصا أن الوقت صيفا. لكنها أدركت أن زوجها ينسى، وربما نسي أن الوقت صيفا، ثم ضحكت، وراحت ناحية المطبخ.
كان رجال يتجولون في الغابة، عثروا على الجثة، وبجسارة أبلغوا الشرطة التي فتح عناصرها تحقيقا في مقتل المرأة، وأخيرا اهتدت إلى القاتل.
مرت أيام وليالي… ذات صباح، وبينما أشرف بالمطبخ يحتسي كأس قهوة بالحليب ويقلب صفحات الجريدة، قرأ أن “الشرطة بعد عثورها على جثة الهالكة أخذت بصماتها لأجل التعرف على هويتها، حيث تبين من خلال استعمال الناظم الإلكتروني أن الهالكة من “الخميسات”، وبعد تحريات وبحث دقيق تأكدت الشرطة أنها أقامت ليلة الاثنين 5 يونيو في فندق بالفنيدق رفقة زوجها الذي لم يعد له أثر، غير أن دورية من دوريات الأمن اعتقلته، حيث اعترف للتو بجريمته”
عادت الروح إلى أشرف، وأحس بانبساط غريب وفرح لأنه نجا بأعجوبة. ثم عاد ليقرأ اعتراف الزوج: ” لقد كان الدافع إلى قتل زوجتي هو ارتيابي فيها بسبب الصداقة التي كانت تربطها مع صديقة لها معروفة ب”الخميسات”، نبهتها، لكنها واصلت صداقتها لتلك المرأة، فازداد ارتيابي فيها، فخططت لرحلة إلى تطوان، ثم أقمنا بفندق بالفنيدق، وفي الصباح ذهبنا للتبضع، والتجول بالمدينة، حيث استدرجتها إلى غابة النيكريطو، التي كانت خالية وضربتها بحجرة كبيرة على رأسها، وكررت العملية بوحشية، ثم تركتها غارقة في دمائها، وخرجت من الغابة”.
أحس أشرف بصداع نصفي…
ألقى بالجريدة في فضاء المطبخ، وضرب كفا بكف. وبعد هنيهة، نسي ما قرأه، بل إنه نسي أن يكون قد ذهب في صباح يوم صيفي إلى غابة “النيكريطو”.
اللوحة للفنان التشكيلي محمد بوزباع