“الصانع” لرولان بارث.. ترجمة يوسف خليل السباعي

رولان بارث
ترجمة: يوسف خليل السباعي

” إن الإرادة تحرقنا والسلطة تدمرنا: أما المعرفة فتترك تنظيمنا الضعيف في حالة هدوء دائم”

لقد لاحظ تيبودي thibaudet أنه غالبا ما يوجد في إبداع الكتاب الكبار أثر أدبي – محدود، ذلك الأثر الأدبي المفرد والمزعج إذا صح القول، والذي يقدمون من خلاله السر والسخرية في آن واحد من إبداعهم، للإيحاء بذلك كله إلى الأثر الأدبي الزائغ الذي لم يكتبوه، والذي ربما كانوا يريدون كتابته، إن هذا النوع من الحلم حيث يمتزج بشكل نادر الإيجابي والسلبي لمبدع ما، هو ” حياة رانسي” لشاتوبريان، و”بوفار وبيكوشي” لفلوبير.

هل يمكننا أن نتساءل إن لم يكن ” الصانع” ( 1)، فيما يخص بلزاك، هو أثره الأدبي – المحدود.

أولا وقبل كل شيء لكون ” الصانع” هو من المسرح، بمعنى أنه عضو زائغ جاء في سن متأخرة من بنية منجزة بقوة، بالغة ومعينة بدقة، هي الرواية البلزاكية. إذ أنه ينبغي أن نتذكر دائما بأن بلزاك هو تلك الرواية الصانعة للإنسان، تلك الرواية المفتوحة حتى آخر حدها الأقصى، ونزوعها، ذلك أنها إن صح التعبير، الرواية القاطعة والرواية المطلقة.

فماذا جاء يفعل هاهنا هذا الشيء الغامض ( أربع مسرحيات في مقابل مائة رواية) هذا المسرح الذي كان يعبره بلا نظام كل أشباح المسرح الفرنسي، من موليير إلى لا بيش؟ لقد جاء وبدون شك، ليشهد على طاقة ( ينبغي إدراك هذه الكلمة بالمعنى البلزاكي للقدرة الإبداعية النهائية) في حالة خالصة، محررة من كل كثافة، ومن كل تأخر من السرد الروائي. إن ” الصانع” خدعة، لكنها الخدعة التي تحرق: بما هي فسفور الإبداع، فالعجلة هاهنا ليست أبدا لطيفة، رشيقة ووقحة، كما هو الشأن في المسرح الكلاسيكي، وإنما هي عجلة قاسية، عنيدة كهربية، متلهفة لانتزاع، وغير مهتمة بالعرض: إنها عجلة جوهرية. فالجمل والعبارات تنتقل بدون توقف، من ممثل إلى آخر، كما لو أن الشخصيات، في الجزء الأعلى من أثارات الحبكة، من حلقة الإبداع المتفوق، مرتبطة فيما بينها من خلال الاشتراك في الإيقاع: ثمة باليه في ” الصانع”، بل إن كثرة التناجيات، ذلك الشعار الفزع من الجهاز المعقد القديم في المسرح، يضيف إلى الجولة نوعا من الارتباك الحاد: وعلى أي حال، فإن الحوار هاهنا يتوفر دائما على بعدين. ذلك أن الخاصية الخطابية للأسلوب الروائي مكسرة ومحولة إلى لغة رنانة، وممثلة على نحو رائع: إنها أسلوب ذائع الصيت في المسرح، اللغة نفسها للمسرح داخل المسرح.

إن ” الصانع” يرقى إلى السنين الأخيرة من حياة بلزاك. ففي سنة 1848 ستتأرجح البرجوازية الفرنسية: من الملاك العقاري أو الصناعي، المسؤول عن التوريدات والمحترس على المنشأة العائلية، إلى الملاك لوي- فليبار المدخر للخيرات المادية، متتبعة المجازف بالمال، والمضارب في حالة خالصة وسيد المال، ذلك الرجل الذي بوسعه، بشيء زهيد، أن يربح الكل. إننا قد لاحظنا أن بلزاك قد صور مقدما، في كثير من مواضيع أثره الأدبي، مجتمع الإمبراطورية الثانية. وهذا صحيح بالنسبة لميركادي، رجل السحر الرأسمالي، الذي سينفصل المال من خلاله عن الملكية بأعجوبة.

إن ميركادي خيماوي ( وهذه موضوعة فاوستية أثيرة لدى بلزاك)، فهو يسعى إلى خلق شيء ما من اللاشيء. واللاشيء هاهنا، هو كذلك أكثر من أي شيء. إنه الفضاء الإيجابي للمال، الثقب الذي ينطوي على سمات الوجود: إنه الدين.فالدين حبس ( في نفس الوقت حيث كان السجن يعاقب بقسوة بسبب الديون، ذلك الكليشه الذائع الصيت الذي يتبين في ” الصانع” كفكرة ثابتة). ولقد كان بلزاك ذاته محبوسا بسبب الدين طوال حياته. وهكذا فإنه يمكننا القول بأن الأثر البلزاكي هو الأثر الواقعي والمحسوس لاضطراب عنيف للتخلص منه: كانت الكتابة في بادئ الأمر، هي تسديد الدين وتجاوزه. بل أن ” الصانع” من حيث هي مسرحية، ومن حيث هي ديمومة مأساوية، تتضمن سلسلة من الاضطرابات المحتدة لإبراز الدين، وقطع الحبس الجهنمي عن الفراغ النقدي. إن ميركادي هو ذلك الرجل الذي يجازف بكل الوسائل من أجل أن يفلت من قميص جبري لديونه. وذلك ليس قطعا من خلال أخلاق ما، وإنما بالأحرى من خلال نوع من الممارسة الديونيسية للإبداع: فميركادي لا يسعى إلى تسديد ديونه، بل يسعى على نحو قاطع إلى خلق الثروة بشيء ما. إن المضاربة هي الشكل المستعلي، والخيماوي، للكسب الرأسمالي: فيما أن ميركادي رجل متأخر ( موديرن)، فهو لا يسعى أبدا إلى الخيرات المادية، بل إنه يسعى إلى خواطر الخيرات، أي إلى تخيلات الثروة. إن جهده ( الواقعي كما شهد بذلك تعقد الحبكة) يستند إلى أشياء ” مجردة”، فالعملة الورقية هي، قبلا، الروحنة الأولى للذهب. أما القيمة فهي ذلك الشيء الأخير غير المحسوس: فبعد بشرية – المعدن ( التي تتكون من المرابين والبخلاء) ستأتي بشرية- القيمة ( التي تتكون من ” الصناع”، الذي يصنعون شيئا بدون نتيجة)، وهكذا فإن المضاربة، بالنسبة لميركادي، هي عملية خالقة مرصودة للعثور على حجر الفلاسفة المتأخرة: الذهب الذي لن تتوفر عليه.

إن موضوعة ” الصانع” الأساسية والحالة هذه هي الفراغ وهذا الفراغ هو فراغ مجسد. إنه غودو الشريك، الشبح، الذي ننتظره دائما، ولا نشاهده على الإطلاق، الذي ينتهي بخلق الثروة انطلاقا من فراغه وحده.

إن غودو إبداع مذهل. فهو ليس مخلوقا، وإنما غياب ، بيد أن هذا الغياب هو غياب موجود، وذلك لكون غودو وظيفة: ولعل العالم الجديد بأسره موجود في هذا الانتقال من الكائن إلى العمل، ومن الموضوع إلى الوظيفة، بما أنه ليس في حاجة لوجود الأشياء، وإنما يكفي بان تشتغل، أو بالأحرى أن تشتغل من غير أن تكون موجودة. إن بلزاك بم ينظر إلى الحداثة المعلن عنها، من حيث هي عالم من الخيرات والأشخاص ( مقولات القانون النابوليوني)، ولكن من حيث هي عالم من الوظائف والقيم: ذلك أن ما يوجد ليس قطعا ما هو موجود ، وإنما ذلك الذي يمكث. إن جميع الشخصيات في ” الصانع” هي شخصيات فارغة ( ماعدا النساء ) إلا أنها شخصيات موجودة وذلك لأن فراغها هو فراغ متشابه: بحيث أن كل واحدة منها ترتبط بالأخرى.

فهل هذه الإوالة هي إوالة ظافرة؟ هل سيعثر ميركادي على حجر الفلاسفة التي يبتغيها، وهل سيخلق الثروة بشيء ما؟ إنه يوجد، في الواقع، انفراجين في “الصانع”: الأول، أخلاقي، ويتمثل في الخيمياء المدهشة لميركادي المعاكسة من طرف وساوس زوجته، ثم ميركادي الذي سيظل مدمرا إذا مالم يصل غودو ( وعلى كل حال فنحن لا نشاهده) ولم يعوم شريكه، مع احتمال من جهة أخرى، أن يبعثه ليعيش في طوران لكي يتطبع بعادات مزارع مهذب وقعدة، أي بالعكس نفسه للمضارب. إن هذا هو الانفراج المكتوب، بيد أنه ليس من المؤكد أن يكون هو الانفراج الحقيقي.

فالحقيقة المضمرة هي أن ميركادي يكسب: ونحن نعلم جيدا أن الحقيقة العميقة للإبداع، هي أن غودو لن يصل، وذلك لكون ميركادي مبدع مطلق، فهو لا يدين لأي شيء سوى لنفسه ولسلطته الخيماوية.

أما زمرة النساء ( المتمثلة في السيدة ميركادي وابنتها جولي) التي يجب أن نضم إليها الشاب مينار طالب الزواج الذي يملك عواطف طيبة، ويتموضع بجرأة خارج دائرة الخيماوي، فهي زمرة تمثل النظام القديم، عالم الملكية المقيدة بل المتماسكة، عالم الإيرادات المؤكدة والديون المسددة من الادخار، وهي إن لم تكن مكروهة ( ربما أنه ليس ثمة أي شيء جمالي ولا أخلاقي في الفعالية الفوقية لميركادي) فهي على الأقل ، غير مرغبة: حيث أنه لم يسمح لها بأن تتفتح ( في نهاية المسرحية) إلا خلال الامتلاك الأكثر خطورة والذي هو امتلاك للأرض ( الخاصة في طوران).إننا نعلم إلى أي مدى يتوفر هذا المسرح على قطبين متعارضين للغاية: فمن جهة، نجد الصعوبة والعاطفة والأخلاق والموضوع، ومن جهة أخرى، السهولة والكالفانية والوظيفة. ولأجل هذا يعتبر ” الصانع” أثرا أدبيا- محدودا: وذلك لأن الموضوعات هي موضوعات مفرغة من أي التباس، ومعزولة بمعرفة باهرة وشرسة.
وهكذا يكون بلزاك، إضافة إلى ذلك، قد كمل هناك شهادته القوية عن المبدع، مظهرا صورة أب غير مناسب للأبوة. ونحن نعلم أن الأب ( غوريو من حيث أنه تجسيد قوي) هو الشخصية الرئيسية للإبداع البلزاكي، بما أنه يعتبر في الوقت ذاته مبدعا مطلقا وضحية كاملة لمخلوقاته.

إن ميركادي مخففا ومختلسا من خلال آفة المضاربة ، هو أب مزيف، إنه يضحي بابنته، ثم إن النزق المدمر لهذا العمل الأدبي هو أن يحدث لهذه الفتاة أمر غريب، إنها جرأة نادرا ما نشاهدها في مسارحنا، ذلك أن هذه الفتاة هي فتاة بشعة، وبشاعتها هي موضوع المضاربة، فأن تضارب على امرأة رائعة الجمال، معناه أن تؤسس محاسبة للكائن، أما أن تضارب على بشاعتها، فذلك يعني أن تقفل حلقة العدم: إن ميركادي، بوصفه صورة شيطانية ل ” السلطة” و ” الإرادة” في حالة خالصة، سوف يصير مفلسا ومدمرا كلية، إذا ما لم يعد له حادث مفاجئ أخيرا ثقل العائلة والأرض. وبالفعل، فنحن نعلم جيدا، إضافة إلى ذلك، أنه لم يبق أي شيء في ” الصانع” على الإطلاق: إذ ملتهما ومختلسا في آن واحد من خلال حيوية نزوعه، ومن خلال الإغراء اللامحدود لقدرته الكلية، يجلي المضارب في ذاته المجد والجزاء لجميع أولئك البروميتسيون البلزاكيون، سارقو النار الإلهية، مما يجعل ميركادي، مثله في ذلك مثل النموذج الجبري الأخير، متنافرا ومدهشا في الوقت ذاته.

العنوان الأصلي للنص: vouloir nous brûle
Représenter par Jean vilar au T.N.P

رولان بارث: أبحاث نقدية، ص: 90-93
R.Barthes. Essais critiques. P.90-93
Editions du seuil

Loading...