تأليف الكاتب والصحفي: يوسف خليل السباعي.
بعد خروج رشدي من السجن، قفل هاتفه الخلوي، ثم نظر بهلع إلى السماء الرمادية.
كانت سيارة بلجيكية سوداء عريضة تنتظر رشدي، الخارج للتو من السجن.
كانت السائقة سيدة مسنة بلا ملامح وبلباس جنائزي. لم يسألها عن سبب وجودها قرب باب السجن.
انطلقت السيارة بسرعة جنونية، برغم امتلاء الطريق بالسيارات.
بعد برهة، انعطفت السيارة صوب مساحة رملية شاسعة. خرجت السيدة المسنة التي لاملامح لها من السيارة وبقوة أمسكت رشدي من قفاه، ثم قذفت به في المساحة الرملية الشاسعة، واختفت هي وسيارتها ليلفى رشدي نفسه متوحدا أمام بحر أسود!
كان البحر الأسود عميقا… حيتان كبيرة بأجنحة، وأرانب، وحورية سوداء البشرة تحمل سيفا بلوريا وقاربا أزرقا مكسورا…؛ وغير بعيد، عرش من خشب الأشجار يجلس تحته عاريا عبد أسود بقرون ثور يحمل رمحا كبيرا ويراقب بعيونه الكهفية كل الحركات والسكنات!
وقف رشدي صامتا كالصنم، وبالكاد تنفس؛ لكنه لم يستطع مقاومة المياه السوداء الكثيفة التي غمرت رئتيه، فكاد أن يلفظ أنفاسه!
في ذلك الوقت، جاءت الحورية السوداء وأطعمته من ثديها حليبا نجميا جعله يسترد أنفاسه، ثم، بلا ذعر، سقط في حضن العبد الأسود الذي غرز رمحه في ظلام المياه!
كان الرمح الذي ألقاه بقوة العبد الأسود… قد اخترق ظلام المياه!
كان الرمح موجها لصدر رشدي، الذي راوغ الرمح، فراح في اتجاه آخر.
لو كان الرمح استقر في صدر رشدي للفظ أنفاسه في الحال!
هل كانت يد العبد الأسود… قد ارتعشت، لا أحد يعرف سر ذلك، لأنه، مباشرة، بعد ذلك اختفى. لربما، غيبه الظلام أو انمسخ إلى بومة!
ظل رشدي يسبح في عمق البحر الأسود لأربعة أعوام، يرغب في الوصول إلى سطح المياه، وكان في كل مرة يتعب، يستريح برغم أنه لايبصر شيئا، فالظلام يغلف كل شيئ، إلا جسد حورية البحر الأسود، التي كانت في كل مرة تأتي بغتة وتطعمه من حليب ثديها الذي يمده بالقوة اللازمة…
… تابع رشدي السباحة في الأغوار السوداء. كانت حورية البحر الأسود قد اختفت كأنها لم تكن موجودة قط!… كان حليب ثديها قد زوده بقوة غريبة، وظل يسبح بعنف إلى أن صعد إلى سطح المياه. وبرغم أن ضوء الشمس كان ملتهبا أبصر بصعوبة سفينة واقفة في المياه الزرقاء الصافية المتلألئة.
وبخفة لاعب الحبال في السيرك صعد رشدي إلى السفينة، فزكمت أنفاسه روائح الجثث المكومة في قلبها: رؤوس وأيدي وأرجل وأضلع مبتورة، وعيون مفقوءة وألسن مقطوعة وأحشاء مبعثرة، و كاد أن ينزلق في بحيرة الدماء المتدفقة لولا أنه أمسك بحبل شراع من أشرعتها.
كان ( رشدي) على وشك أن يفقد وعيه، ويتقيأ ما في جوفه، لكن قوة الحليب الذي شربه من ثدي حورية البحر الأسود أمنحه صلابة وقوة.
كانت السفينة بلا قبطان، أو، لربما أن الوحوش التي سفكت الدماء ونهبت خيرات السفينة قد مزقت أحشاءه… وألقت به للحوت الأبيض الكبير الذي تمرد على حكم العبد الأسود الذي جلس على العرش بعد أن استعان بالسحرة في تجميد ملكة البحر الأسود إلى تمثال برونزي!
…تابع رشدي السباحة…، بعد ارتمائه في زرقة المياه، خيل إليه أنه يعود إلى حضن أمه التي افتقدها. ترك المياه تسحبه كما لو أن الحورية السوداء مرضعته تدفعه بقوة لإنقاذه من جبروت العبد الأسود، الذي استولى على البحر الأسود، والذي نهب مع أتباعه كل السفن وقتل الجميع، ولم يبقي أحدا على قيد الحياة.
بغتة، وجد رشدي نفسه على الشاطئ. كان فارغا، أو هذا ما تمثله، بعد ما دخلت خيوط الشمس الملتهبة إلى قعر عيونه باختراق. تمدد عليه، فأزيح عنه كل التعب على أن هذا التعب لم ينال منه قط.
كانت الحورية قد اختفت، كما اختفى الجميع. وبخفة، نهض رشدي برعونة، كان الحليب الذي رضعه من ثدي الحورية يمده بالقوة والبسالة. تمشى، وإذا به يبصر بومة، عندما اقترب منها، خدشته، وحلقت عاليا، تاركة وراءها لطخة سوداء على وجه رشدي، والتي بقيت منغرزة فيه إلى الأبد.