رواية “الشرفة” ليوسف خليل السباعي

يوسف خليل السباعي

1- وحيدا في المنزل، لاحركة، لاضوضاء. سكون يحيط بغرفة النوم. استفقت مذعورا. كان حلما غريبا. لا أتذكر تفاصيله، اندثر ولم يلبث منه سوى وجه امرأة نائمة على غطاء أرضي، هو ذاته الغطاء الذي كنت أنام عليه في المنزل الذي اكتريته منذ شهور بسانية الرمل.

دلفت إلى دورة المياه، اغتسلت بماء بارد، نشفت بفوطة برتقالية أطراف جسدي، ثم اتجهت صوب المطبخ الشاسع. ثمة أواني مغسولة، ورفوف فارغة، وقارورة زنجبيل وبعض الثمر والرغيف… آه، ثمة أيضا حليب وجبن أبيض بلدي. تناولت كأسا من الحليب وثمرة، ثم تناولت ملعقة كبيرة من الزنجبيل، وبعد هنيهة، أشعلت دخينة كولواز المفضلة لدي، وأنا أفتح النافذة التي تطل على الشارع.

راح بصري باتجاه شرفة ضيقة لمنزل مجاور. في الشرفة رجل بنظارة سوداء جالس في صمت كأنه يسترجع ذكرياته، كان رجلا في الستين من عمره. صامت كحجرة، لايتحرك، لايقف، قلت في سري:” ربما، لايحب الوقوف”. لم أفهم، أغلقت النافذة وعدت إلى الصالون. لم أفكر قط في الرجل برغم أن قسماته غريبة. لفني الغموض، وأصابني عجب، ولا أعرف حينئذ لماذا تذكرت محيا المرأة التي زارتني في الحلم. كانت نظراتها غريبة، وغامضة، نظرات حزينة.
فراغ قاتل هذا المساء، أفتح نافذة المنزل، لا أثر للرجل، لقد اختفى، الشرفة فارغة.

أدلف إلى المطبخ، أتناول خبزا مدهونا بالجبن الأبيض، وأتناول كأس حليب، ليس مسموحا لي ببلع ملعقة ثانية من الزنجبيل، أدخل إلى دورة المياه، أغسل أسناني بفرشاة نظيفة، وأنظر إلى المرآة، كانت رغوة المعجون الأبيض تنزل على شفتي السفلى، فأبتسم، ولو أنني لا أبتسم كثيرا، ذلك أمر لا أدرك معناه، أمر في غاية الصعوبة، ربما، ثمة في دواخلي حزن آسر متواصل، لا أقدر على تفسيره، حزن غريب آت من طفولتي، أو من فقدان ما، قد يكون فقدان للشمس الغائبة.

خرجت من دورة المياه، أشعلت دخينة كولواز وسافرت مع دخانها الذي كان يتصاعد في السقف الأبيض.
لم تكن سوى طفلة بريئة، حسناء كالوردة، زارها الموت في تلك الليلة المحزنة، شمسي الغائبة. خرجنا من الحمام، نلعب ونضحك، لم أكن أتوقع أنها سترحل في هذا الوقت المبكر. بكيت حتى أغمي علي، وكنت أحبها.

آه… من النار… تشتعل في قلبي ويظل رمادها يحفر في أغوار الذاكرة والجسد، جسدي الممتد في الزمن كشريط سينمائي… وحين كان دخان كولواز يتصاعد في السقف الأبيض كخيط رقيق كان قلبي يرحل معه، وكان وجهها الشمسي يظهر ويختفي كالبريق.
الآسى، الذي أشعر به، ويمزق قلبي، أن قبرها قد اختفى، ولم يعد له أثر.

أرتمي على فراشي الأرضي، وأنام. ضوء الشارع ينفذ من النافذة التي توجد بغرفة النوم. سكون يملأ المنزل.
في الصباح، أفتح النافذة، أبحث بعيوني عن الرجل، إنه غير موجود. أين رحل؟…لا أثر له. بعد برهة، يخرج جالسا على كرسيه بنظارته السوداء. هذا الرجل لا إسم له. لا أعرف شيئا عنه. كان لابد لي أن أفتح الباب وأخرج.

كانت العمارة التي يقطن بها الرجل الغامض جديدة، وتحتها كراج لغسيل السيارات. سألت حارس السيارات الأسمر:” هل تعرف رجل الشرفة؟”… قال بصوت أجش: “لا أعرفه… كل صباح يخرج إلى الشرفة، وينظر إلى السماء”.
الرجل لم يكن ينظر حقيقة إلى السماء، وإنما إلى الفراغ. وكان عقلي يقول لي:” إنه أكمه…”. ولكنني، لم أكن على يقين من أنه أكمه.

لا أعرف لماذا كان ثمة نزوع يدفعني إلى التعرف على أسرار الرجل الغامض؟… ولا أعرف لماذا هذا الشغف للمعرفة الذي سكنني بغتة… أمر غامض تلبسني كسحابة عابرة لم أستطع الإمساك بها، كانت السحابة عالية، أتبعها فتهرب، ولم يكن قلبي يهرب، بل كان يرتجف، ليس من برد الصباح، ولكن من برد الشغف.

يتبع

Loading...