رواية “الشرفة” ليوسف خليل السباعي (تابع)

يوسف خليل السباعي

كل ما يفعله أنه كل صباح من الأصباح يخرج إلى الشرفة. الشرفة هي مأواه، وأنا:” ماذا أفعل في هذا المنزل الذي اكتريته وحيدا؟”. أبوح ما في سري. أين هي سناء؟… لم تأتي هذا الصباح لتشرب معي القهوة. أشرب قهوتي السوداء وحيدا، وأفكر فيها على الدوام. أنا لم أكتري هذا المنزل لٱستقر فيه وحيدا، منعزلا كمالو كنت شبحا. يخيل إلي أحيانا أنها تمشي من غرفة النوم إلى المطبخ، تهيأ لنا الطعام، فنأكل ونضحك، ونتبادل الأفكار، و…، غير أنني عندما أريد أن أمسك بيدها، لا أجد أثرأ لها.
أسمع طرقات على الباب. أفتح.
إنها سناء بجلبابها الأسود المطرز بورود صغيرة بيضاء.
أأنس، أبتسم، أكاد أرقص.
لا تختفي ابتسامتها.
تشرق الشمس في هذا المنزل الذي كنت أنظفه كل صباح، تعلمت ذلك منها، كما تعلمت أشياء كثيرة.
صوت بدواخلي يسألني: ماذا تعلمت؟…
قلي السمك، ليس كثيرا…و…
يضحك الصوت، ويختفي.
سناء لاتتكلم الآن، ترمقني بنظرات ملغزة، لكن مايروقني فيها ابتسامتها ووجهها الشمسي، وطيبوبتها… فبرغم الجراح…تظل ابتسامتها تضيء المنزل، وتضيء قلبي، الذي يحبها بجنون.
تخرج سناء.
تروح إلى محلها… وأظل أنا مركزا نظري في الرجل الصامت، صاحب النظارة السوداء.
من هو؟… سؤال يحيرني، ولا أجد له جوابا.
الرجل، لا أعرف إسمه، ولا ماضيه، ولا ما يوجد خلف الشرفة.
كل ما أراه فضاء الشرفة الصغير. ولاشيء آخر.
كنت أفكر في سناء طيلة النهار. وعندما كانت تغرب الشمس، أدرك أنها نامت، ولكنني لا أقدر على نسيان حركاتها وسكناتها.
عندما كانت تدخل إلى دورة المياه… كانت تستعمل ماكياجها الخاص، وكانت حريصة على أن تأخذ دشا دافئا، وهي تحمل قلبا دافئا، كما كانت حريصة على أن تضع ماكياج خفيفا، فالجمال بالنسبة إليها لاينبغي خدشه، ينبغي جعله خفيفا كالريح. ماكان يجعلها مختلفة عن نساء أخريات ليس ماكياجها الخفيف، وإنما روح ابتسامتها، التي قد اعتبرها بعض المتطفلين فتنة… ولكنها لم تكن كذلك، كانت قمرا يضييء الكون. وهذا وضع المتطفلين في حالة الاستغراب، والذهول.
هل لليل قلب؟
الليل له روح… لا يفهمه إلا من أحب.
ولكن قلب الليل هنا هو قمره.
وهذا القمر كان ساكنا في عيون سناء.
تلك العيون التي كانت تتابع قرص الإبرة التي تخيط بها القفطان.
نجلس على رمال شاطئ الرينكون ليلا.
موجات البحر تغسل أرجلنا. نتأمل القمر الذي ينعكس ضياؤه على البحر.
كلامنا خطاب عاشق، وعيوننا تتلامس كحبات الرمل، لاشيء يكدر صفونا سوى الضجيج.
الضجيج الذي كان يزعج سناء، ولم أكن آبه به، لأنني أعرف هذه المدينة الساكنة في أغواري.
قلت لسناء، سائلا: ما الذي يزعجك؟…
قالت: لاشيء.
لم تقل شيئا، ولكنها كانت تخفي أسرارا، هي ملكها. أسرارا خاصة بماضيها الدفين.

يتبع

Loading...