يوسف خليل السباعي
… كانوا وحوشا. فإذا “مرض منهم الواحد ضربوا له خيمة ناحية عنهم، وطرحوه فيها، وجعلوا معه شيئا من الخبز والماء، ولايقربونه ولايكلمونه، بل ولايتعاهدونه في كل أيام مرضه، لاسيما إن كان ضعيفا أو مملوكا، فإن برئ وقام رجع إليهم، وإن مات أحرقوه، فإن كان مملوكا تركوه على حاله تأكله الكلاب وجوارح الطير”.
وأنا أقرأ هذا المقطع تذكرت ماحصل في تلك القرية التي قل فيها الطعام، ولم يعد كافيا للجميع فقرر كبار القوم إبعاد جماعة من الشيوخ بعد تحطيم أسنانهم ليموتوا من الجوع في عزلة.
فكرت في الرجل الغامض، وراودتني أسئلة: ماذا يأكل؟… كيف يعيش؟… هل ينام سعيدا؟… لكنني عدلت عن التفكير في الأمر بعد أن اخترقت أذني أصوات شديدة وهمهمة عالية، قد تكون قادمة من الشرفة. فكرت: هذا المنزل مسكون بالأشباح!… أو السحرة!… أو الشياطين!.
ارتديت لباسي الإعتيادي. اتجهت صوب المطبخ. تناولت ثمرة وكأس حليب، ثم تناولت ملعقة كبيرة من الزنجبيل، وخرجت.
3- لا مفر من ملاقاة الشرفة. سحرها يجذبني إليه عنوة. أنظر إلى الأعلى. الشرفة فارغة. لا أستطيع تخيل ما يوجد خلفها. أشتم رائحة غريبة: رائحة الشبح!
قرأت، ذات يوم، في / كتاب/ أن للرائحة تاريخ كما أن للعين تاريخ. ما أستطيع تخيله خلف الشرفة هو الظلام. إنه أمر محير للغاية، وبرغم الحيرة التي تأكلني كلية، كان عنادي مثل حصان جامح، أو متغطرس. أرهف السمع لرجيف قلبي. لا أحد سيفهم ما أرغب في اكتشافه، أو الوصول إليه.
الشرفة مأزق!. ربما، لعنة! وقد تكون نورا يماثل نور القمر، لكنني الآن أمام حقيقة لا يسعني الفرار منها: الظلام.
أكاد أصاب بالجنون، وبلاريب، أضحيت مجنونا فعلا،وهذا الجنون سببه هو ظهور واختفاء ذلك الرجل الصامت، الغامض، رجل النظارة السوداء.
ضوضاء الشارع تجعلني غاضبا. أحث السير إلى درب بالحوار. لاشيء يبعث على الفرح، فذهني مشغول بسحر الشرفة وغموض الرجل، الذي لم يعد يخرج إليها مطلقا كما لو أن السماء ابتلعته، أو أن ذئبا اختطفه. وقد يكون رجل النظارة السوداء هو الذئب!… أمر يبعث _حقا_ على الحيرة.
الجنون يتتبع خطاي. التيه يجرفني إلى ليله المعتم. الذكريات ظلمة ومتاهة. في الدرب بلاحراك ألفيت نفسي أمام محل الخياطة سناء. كان مغلقا. قلت في سري، متسائلا، وحبل الشك يقيد تفكيري:” هل رحلت سناء؟!… قد تكون اختفت!…”… لا جواب…كل ما أعرفه الآن هو أن محلها مغلق.
قالت سناء: “لم أكن أحب أحدا أكثر من أمي، بالرغم من أنهم حرموني منها. كانت عيونها لامعة كالقمر، لكنها لم تكن تبوح يجراحها. أمي لم تكن تتكلم كثيرا. كان صمتها كلامها، ولم تكن تمرح أبدا. كان الخوف يهيمن على حياتها. كان الخوف نزوعها الوحيد. عندما كنت أفكر في أمي وما حصل لها تتكاثر كراهيتي لزوجة أبي. كانت امرأة قاسية، عنيفة وقبيحة. وعندما كنت أفكر في فصل أمي عن أبي بالقوة أكاد أصاب بالجنون. كانت ” عقدة الصمت” حبلا يلتف على عنق أمي. لقد كانت (شيئا)”.
لم تكن سناء تحب الخياطة. لم تكن تعرف شيئا عن ذلك. عندما عادت إلى تطوان شرعت في بيع اللباس. كانت تستوردها من محل مانويلا بمالقا. نجحت في تلك التجارة، وكانت لهاعلائق بعدد من الزبائن. كان أحدهم (باشا) المدينة. حدثه عون له عن محل سناء فزاره واقتنى أجمل البدلات طرازا. انهال المال على سناء وأصبح المحل معروفا عند أصحاب المكانة الرفيعة الذين أصبحوا من أكبر الزبائن.
كانت سناء تقتسم المال مع مانويلا فكبرت كرشها، وبدأت تطلب من سناء أن تعطيها الحصة الكبرى. قطعت سناء كل صلة لها بمانويلا وتعاملت مع محلات أخرى بإسبانيا.
في صباح من الأصباح، فتحت سناء محلها. نظفته بنفسها. ثم، جلست تنتظر وصول أحد زبائنها، لكن لا أحد ظهر، وبحركة خفيفة، وضعت يدها اليمنى على خدها، تنتظر، وعيونها مفتوحة على الباب. بعد هنيهة، رن هاتفها. كان المتحدث عون الباشا. أخبرها_ كما قالت_ أن (صاحب السعادة) نقلوه… حتى النظر في ملفه… ثم، بغتة، انقطع الاتصال. أصاب سناء دوار، واضطراب، بل وانزعاج حاد، وأصبح وجهها كقطعة ورق أصفر، وجمدت كالثلج، كما ذبلت عيونها وغابت ابتسامتها… وبينما هي على ذلك الحال دخلت إلى المحل فتاة ترتدي جينزا أزرقا ممزقا من الركبتين وقميصا أسودا. كانت عيونها كبيرة الحجم وأنفها دقيق وفمها فارغ وكان برفقتها طفل شيطاني…
– “سيدتي، أعجبني ذلك الفستان الأبيض الفاتن المعلق هناك. كم ثمنه؟”.
– “هل ترغبين في شرائه؟”.
– “أجل، سيدتي. هل بوسعك جلبه لي لألمسه؟”.
– “بكل فرح”.
قالت سناء. وهي تخفي غضبها.
– سأجلبه لك حالا. انتظري.
في هذا الوقت كان الطفل الشيطاني الخفيف قد مد يده اليسرى إلى حقيبة سناء اليدوية وخطفها كما لو أنه يخطف علبة شيكولاطة…
جلبت سناء الفستان، غير أن الفتاة والطفل الشيطاني اختفيا كمالوأن السماء ابتلعتهما.
كانت سناء تمتلك مزهرية وضعتها عند باب المحل. لم تسلم من فوضى الطفل الشيطاني الذي تبول عليها، ومشى يرقص.
اجتاح سناء اهتياج، وخبال، وغضب شديد. شعرت بأن سقف المحل يسقط، كلية، على رأسها. صرخت: “حقيبتي… حقيبتي”، ثم، انطلقت كثور هائج. ولم تقف إلا عند وصولها إلى دائرة الشرطة.
يتبع