بقلم: د. محمد الفهري*
اختار يوسف خليل السباعي لمجموعته القصصية الأولى عنوانا ترميزيا يتشكل من كلمة واحدة فقط، وهي “الظل”.
وتطلق هذه اللفظة ـ بشكل عام ـ على الخيال الذي ينتج عن المشخصات في اتجاه سقوط أشعة الشمس / (الضوء)، أو يرتبط بحالة انعدام النور، فيدل على العتمة السائدة قبيل فترة بزوغ الفجر. وقد يتخذ الظل ـ تارة ـ صورة الأصل، وقد يخالف ذلك تبعا لزاوية تساقط أشعة الشمس/ الضوء، أو حسب اعتبارات أخرى: الزمن، الوضع، المنظور…إلخ.
والظل أنواع: جميل وقبيح، ويمكن التمثيل للنوع الأول بظل الأشجار الوارفة لكونه يبعث في النفوس مشاعر الطمأنينة والمتعة والراحة، وللنوع الثاني بظل الدخان الذي يكون حارا ومليئا بالسموم مما يسبب الانزعاج والألم والعذاب.
إذن ما هو المعنى الذي يتغياه عنوان هذه المجموعة؟ وهل يقترب من هذه المعاني التي ذكرناها، أم ينفتح على دلالات أخرى جديدة غير الذي قصدناه؟
إن للظل أبعادا ترتبط بفعل الكتابة، وبالأشكال الأدبية بحيث نجد بعضهم يعد الظل نسيج القصة والرواية، بينما يقوم البعض الآخر بربطه بنموذج للشخصية التي تسعى لأن تكون لها ظلال متعددة ومختلفة في الحياة. ولعل هذا المعنى الأخير هو الأقرب ـ فيما لمسناه من دلالات ـ إلى ما قصده الكاتب يوسف خليل السباعي؛ فالكتابة القصصية هي إحدى ظلال شخصيته التي نعرف أن لها ظلالا أخرى مثل اهتمامه بمجال الصحافة والإعلام وغير ذلك.
بعد هذه التوطئة تجدر الإشارة إلى أن المؤلف قد عنون مجموعته باسم الأقصوصة الأولى التي تندرج ضمن جنس القصة القصيرة جدا. وانطلاقا من هذا النص الذي لا تتعدى عدد كلماته الخمسين يتبين لنا أنه ينفتح على تأويلات مختلفة ومتباينة. والرهان الذي يسعى إلى تحقيقه هو أن الظل أصبح لا يفارق السارد، أصبح جزءا لا يتجزأ من كيانه. إنه ملازم له كأصابع يديه: لعله ظل “الكتابة” .!
هذا وجه من وجوه التأويل الذي قد يشاركنا فيه بعضهم، وقد يخالفنا فيه آخرون. ويعد العنوان ـ في الحقيقة ـ أحد المفاصل الأساسية لهذا الفن، بحيث يمكن أن يكون فاتحة لفهم دلالة النص، سيما وأن هذا الأخير يقوم على التكثيف والاقتصاد اللغوي، فيصبح بذلك العنوان مؤشرا مكتنزا بالمعاني والدلالات. وطبيعي أن تزداد أهمية العنوان نظرا لقصر النص، واشتغال صاحبه على مساحة ورقية محدودة، فقد يطلق الكاتب عنوانا ليكشف من خلاله عن النهاية كما في قصة ” كل من عليها”، فهو يوحي بالموت والعالم الجنائزي، و”المصير” الذي يدل على المآل الذي ينتظر شخصا اقترف جريمة قتل. وتجدر الإشارة إلى أن الجملة الأخيرة في هذه القصة تجيب عن العنوان، فهي بمثابة خبر له. أما عنوان “وردة” فهو اسم استعاري يدل على الرقة والجمال اللذين كانت تتميز بهما شخصية “حسناء”، كما يمكن أن يدل على العمل الذي كانت تزاوله هذه الشخصية ألا وهو بيع الورود.
إن القصة القصيرة جدا رغم قصرها ومحدودية فضائها الورقي، نلفاها تطرح أسئلة كبرى، وتعالج ـ بجرأة ـ موضوعات بالغة الأهمية، مثل الموضوعات الإنسانية كما في قصة “مارينا براسكيفا”، والموضوعات الاجتماعية كما في قصة “المصير” و”كوكودريلو”، والموضوعات الوطنية مثلما هو الأمر في قصة ” الذكرى”.
هذا وتتميز بعض القصص القصيرة جدا داخل المجموعة بخرق المتوقع، وتكسير أفق انتظار الواقع. وهو ما يسمى بعنصر “المفارقة” الذي تتسم به رهانات النص. نجد توظيف هذه السمة في قصة ” المتحف” حيث يحكي لنا السارد كيف تم التفكير في تحويل المحطة الطرقية (وهي فضاء يتميز بكثرة الحركة) إلى متحف (وهو فضاء يتميز بالسكون).
وفي قصة “غرور” من خلال حب الظهور/ النسيان، وفي قصة “كوكودريلو” تظهر المفارقة من خلال تصوير وضع رجل سلطة، كيف كان في السابق وكيف أصبح اليوم، وفي قصة “شهيق” تبدو من خلال امرأة تعشق رجلين.
وللنهايات في القصة القصيرة جدا أهمية خاصة، لأنها تكشف عن الصنعة القصصية، فهي تأتي ـ أحياناـ مفاجئة تحاول أن تثير في ذهن المتلقي مخايل الدهشة والافتتان، وتسعى في الغالب إلى البحث عن حل مباغت للمحكي.
ونجد الكاتب يوظف في بعض قصصه النهاية المفتوحة كما في قصة “وردة” و”المتحف”، والنهاية المغلقة كما في ” كل من عليها” و”رقصة”.
هذه بعض السمات العامة للقصة القصيرة جدا في هذه المجموعة، غير أن ثمة بعض الملاحظات الأخرى التي تتبدى للقارئ أثناء القراءة نظير تفاوت قصص المجموعة على المستوى الشكلي والجمالي، فبعض القصص اعتمد فيها الكاتب الجمل القصيرة، وهو أمر مستحب، بينما نجده يعتمد في قصص أخرى الجمل الطويلة المترابطة فيما بينها بالمشيرات الموصولية. ويسعى الكاتب لأجل تطوير الحدث إلى توظيف الجمل الفعلية التي تضفي على النص دينامية خاصة، وهذه الخاصية تحضر بشكل بارز في مجموعة “الظل”، فمعظم قصص المجموعة تبتدئ بفعل مما يجعل الأحداث تتنامى وفق إيقاع لا يعرف التباطؤ أو التوقف.
كما نلاحظ أن ثمة خيطا ناظما يجمع بين القصص ألا وهو الموضوع العاطفي، بحيث أمسى ظل المرأة مهيمنا أكثر من الموضوعات الأخرى. أضف إلى ذلك استناد الكاتب كثيرا إلى الواقع ومحاولته اقتناص بعض الأحداث الواقعية، سيما ما يتعلق بالجريمة ليحولها إلى مادة حكائية.
بقي أن أشير أخيرا إلى أن التجريب في هذه المجموعة القصصية ظل محدودا باستثناء بعض النماذج القليلة التي تم فيها اعتماد طريقة التشظي أو الكتابة الشذرية كما في قصة “المصير”، أو اعتماد تقنية الحلم كما في القصة المعنونة بـ”حلم”، والتي أتاحت للكاتب إمكانية توظيف ما هو عجائبي وغرائبي.
* ناقد وباحث مغربي