يوسف خليل السباعي
اللويحات الأولى:
-1-
ماذا بقي من طفولتي؟… بعبارة أخرى: ماذا بقي لي لأتذكره من تفاصيل طفولتي؟… إنكم تتشوقون احتراقا لسماع قصتي، لكنني لم أعد أتذكر الشيء الكثير. هي، فقط نثار من الذكريات التي قد يمتزج فيها الحلم بالواقع… لكن أي حلم؟… وأي واقع؟…
تحكي جدتي ( ف)، وهو ذات الشيء الذي تؤكده أمي ( ر)، أنني ولدت ذات يوم ربيعي، من دون تحديد الساعة، برأس كبير.
وهذا شيء لم أصدقه في البداية، غير أن أبي، لأنه كان يحبني كثيرا، لم يبح بأي شيء عن هذا التشوه الذي أصابني عندما قذفني رحم أمي إلى هذه الأرض.
قلت لكم، يا سادة، إنني لم أصدق ذلك الكلام… وأسيت، بل إنني لم أعد أخرج من بيتي لشهور عديدة. ورحت في غضون تلك الشهور أتأمل صوري، وأنا في سن صغيرة، فلم يظهر أثر لذلك الرأس الكبير… أو العملاق…
وفي يوم من الأيام، قالت لي جدتي ( ف): ” أنا يا إبني من أنقدك… كنت أضع لك ضمادات على رأسك وأضغط عليه بقوة بعد أيام من ولادتك، واستمررت في هذا العمل لمدة شهر كامل، إلى أن عاد رأسك إلى طبيعته، وهكذا فرح الجميع بعودتك إلى الحياة الطبيعية”.
بالطبع، صدقتها.
ففي يوم من الأيام أصابني اعتلال عسير، تسبب لي في عدم المشي، وكنت أقول في سري: ” هذه، نهايتي، حيث لم أتصور أنني لن أمشي”.
في هذه الأثناء كنت قد تخاصمت مع أمي ( ر) على أشياء تافهة، فغادرت بيت والدي (خ) ورحت لأمكث في بيت جدتي، التي سهرت على علاجي بشكل طبيعي كما لوكانت طبيبة، ومن ثم، زادت محبتي لها، وأصبحت أقدرها كثيرا.
كيف لي أن لا أصدقها، ولا أن أحبها، وهي التي كانت السبب في إزالة تشوهي، وتخليصي من الرأس الكبير الممسوخ، وشفائي من مرض عسير كاد يقضي على حياتي وأنا لا زلت صغيرا.
كانت جدتي (ف) قد تزوجت من والد أمي، لكنها لم تطق العيش معه، كانت صغيرة، وطائشة، فلم يستمر الزواج بينهما، وهكذا عاشت أمي مع والدها (م) لمدة، إلى أن رحل، وعادت أمي للعيش مع جدتي ( ف).
كانت جدتي (ف) قد تزوجت من رجل ثري (ت)، بهي الوجه، يعتمر رأسه بطربوش مغربي أحمر، ويلبس على الموضة، تراخي رمادي نظيف، وربطة عنق سوداء أنيقة… ويمشي كالأيل… هذا الرجل، كان يملك عمارات وحماما ودكانا عريضا ودارا كبيرة، وفي هذا السكن عاشت أمي مع أربعة ذكور (ق)، (ر)، (م) و (ر)، وبنت واحدة (م). غير أن هذه الدار كانت تسكنها، أيضا، امرأة أخرى(ر) هي وأمها العجوز، وإبنها (أ)، وأخته (ز). وهكذا قسم الرجل الثري الدار بين المرأتين، الأولى، عاشت في الطابق التحتي، والثانية في الطابق الفوقي.
ومع مرور السنوات بدأت الدار تعمر، ثم تفرغ، ثم تعمر…
تزوجت ( ز) من موظف في البنك، وكان ينتمي لحزب علال الفاسي، وانتقلت للعيش في العرائش، ورزقت منه بثلاثة أولاد وبنتين حلوتين، وتزوج ( أ) من امرأة فاسية، ورزقت منه ببنات وأولاد هي الأخرى، إلا أن ( أ) ظل ساكنا في الدار الكبيرة، وأمسى هو صاحب الدكان، يسيره بمزاجه ونزقه.
كان ( أ) يستدعي للدكان كل أصدقائه المقربين منه إلى وكر للشراب والمرح، وحين كانت الخمر تلعب برأس الواحد منهم، يشتمون بعضهم البعض، ويتعاركون، ولا يرتاحون حتى تسيل الدماء من أجسامهم، ثم يروح كل واحد إلى حال سبيله.
وتكرر هذا المشهد لسنوات، ولم يتوقف إلا بعدما أفلس (أ).
في هذا الوقت، كانت روح الرجل الثري قد صعدت إلى السماء.
-2-
كانت جدتي (ف) عندما تحني رأسها، أدرك في الحال أنها تفكر في جدي (ت).
وكنت أقول في سري: إنها علامة الحب…، لكنها كانت تحبه بطريقتها الخاصة.
كانت تعرف أن جدي ينام مع امرأة أخرى، هي زوجته الأولى، لكنها كانت تقبل ذلك علانية، وتغضب سرا.
الآن لم تعد جدتي ( ف) حاضرة.
ماتت.
كيف ذلك؟
لاتسألني ياهذا.
ما أذكره أن جنازتها كانت كبيرة، وهو أمر لم أكن أتخيله، لكن الأسرة كبيرة.
كان المطر يسقط على تطوان بغزارة، ولم يسبق أن سقط من قبل بشدة، أو بتلك الشدة، التي كانت عليه في ذلك الوقت. لم أذهب مع المشيعين… ركبت سيارة ( ع)، وكان معنا صديقي ( ح).
في الطريق كان المطر يشتد إلى حد أننالم نكن ننظر عبر الزجاج الذي غطي بالماء، ومع ذلك استطاع ( ع) أن يتغلب على ذلك.
وصلت السيارة إلى المقبرة. اخترقت الجموع. وصلت إلى القبر. بقي ( ع)و (ح) بعيدين عني، كانا يقفان مذهولين، برغم المطر، وهما ينظران إلى القبور البيضاء والرمادية المتجاورة، الصامتة. ها الجثمان يغطى بالتراب، كل التراب، الذي يميل لونه إلى البني أو الأسود. لم يتوقف المطر… يشتد… يشتد…، لم يعد أحد يحتمل المكوث، لقد دفنوا الجثمان.
تفرق الجموع. بقيت أنا وحدي. كان ( ع) و(ح) غادرا المقبرة كما لوكانا شبحين.
أنا الآن وحدي أمام القبر.
يمزقني الصمت.
بغتة، أرى نورا طفيفا يخرج من القبر. قلت هي… هي… جدتي عادت إلى الحياة. تجلت ملاكا. كنت أرغب في عناقها، لكنها اختفت كشبح. آنذاك تذكرت صورتها وهي في ريعان الشباب، بوجهها الجميل، الجذاب والملائكي… تلك الصورة الموضوعة على الحائط في بيت خالتي ( م). ذلك الجمال الخالب، الملائكي، تلاشى دفعة واحدة بفعل الألم، التضحية الكبيرة، والحب، الذي عرفته في الزمن الماضي ثم اندثر، ذلك الحب الساكن في أغوارها، لم تكن تريد أن تبوح به لأحد، كانت تكتمه، فيظل مخبوءا بين الأضلاع، لأن العوائد- آنذاك- لم تكن تسمح بالبوح. لا إفشاء، ولا أي حركة خارج الطقوس المسنونة كالحراب.
أذكر في السنوات الأخيرة، حيث كان يقترب الموت من جدتي كبهيمة، لم تعد تأكل كثيرا، وكانت قليلة الكلام، لكنها كانت تنسى بسرعة، لا تتذكر إلا المقربين منها جدا، وكانت أمي (ر) تسهر على خدمتها برغم مرضها.
كيف تذكرتني أنا حينما كنت أجلس على حافة السرير تحت قدميها، وأكلمها قليلا… قليلا…؟…
شيء يجعلني مندهشا حتى الآن.
هل ماتت جدتي؟…
في الواقع، نعم. لكنها لم تمت في خيالي.
-3-
الشيء الغريب أنه إذا كنت أستحضر صورة جدتي ( ف)، وأنني عايشتها، وعرفتها عن قرب، لا أذكر قط صورة جدة والدي.
كانت جدته وأمه في لحظة واحدة. وتحكي أمي أن والدي لم يعرف قط أمه التي ما إن ولدته حتى أسلمت الروح لباريها. نشأ في حضن جدته، التي كانت هي الأم، وكل شيء، الأم الشجاعة الصلبة. لم أعرفها. لكن هي أحبتني، هذا ما قالته أمي. في بيت والدي بشارع الجيش الملكي، مايزال أبي يحتفظ ببورتريه لها رسمه أحد رسامي القصر الكبير، وهذه اللوحة هي التي أعطتني فكرة عن شجاعتها. وأنا أكتب عن جدة والدي، أو أمه التي ربته، أحاول بصعوبة تذكر بيتنا القديم الأول بالقصر الكبير، لكن لاشيء يحضر، لا تبقي إلا صور طفيفة. كنت أسمع أن بجوار بيتنا القديم هذا كان يقيم عبد السلام عامر وأمه خدوج، وكان عبد السلام عامر صديقا حميما لوالدي، وكان يحبني.
ولكنني لن أتعرف على عامر إلا بعد سنوات، ومن خلال أغانيه وصوره. لكن والدي يعرف عنه الشيء الكثير. لا شيء يحضر في ذاكرتي عن هذا البيت القديم، كل شيء انمحى ولم تبقى إلى بعض الصور الطفيفة. أما جدي، من جهة والدي، لا أعرف عنه شيئا، وكنت كتبت عنه في روايتي ” ناتاليا”. كان قويا، وما ا‘عرفه عنه أنه تزوج أربعة نساء، وكانت له خمسة بنات، وثلاثة أولاد. وعندما كنت أزور والدي في بيته أرى لوحة جدي، فأكتفي بتأملها.
-4-
كلهم ماتوا.
جدتي وجدي وجدة أبي وأمه التي لم يعرفها. وكان أبي لا يحب الكلام في هذا الموضوع. كان يكتم سرا ما، لأنه ليس سهلا أن لا يتعرف الإبن على أمه، ويظل يتخيل شكلها على مدى السنين، هذا الشكل الجميل الآسر، الذي رحل إلى الأبد.
سيحضر الموت بشكله القاسي. وسيأخذ منا أختي ( م)، تلك الشمس الغائبة، ذلك الملاك الذي رحل بلا تثاقل. رحل في طرفة عين. لم يترك لي هذا الموت القاسي حتى الفرصة لأودعها، أو لأقبلها. خطفها وهي في سن صغيرة.
ولم يعد الآن لقبرها بالقصر الكبير أثر، وهذا أكبر ظلم تعرضت له أختي ( م) في حياتها. سأظل لسنين أتألم لموتها، لهذا الفراق المباغت، الذي كان سببا في عزلتي، وحنقي، وتمردي، أيضا. كنت أحبها حد الجنون، على الرغم من أنه لي أخت أخرى أكبر منها.
أذكر فقط قبل الفراق، أنها كانت تلعب معي ونحن في طريقنا إلى البيت.
كنا قد انتقلنا آنذاك إلى بيت جديد بعمارة جدي ( ت). كان هذا البيت وردة الروح، سيفتح أعيني على الحب، عالم الكتاب وأشياء أخرى. كما سيحدد خطواتي القادمة.
-5-
هناك بيت آخر عشنا فيه. بيت واسع. هل بوسعي أن أتحدث عنه؟… كان يجاور بيت الشاعرة وفاء العمراني. إنه بيت الفرح، الغموض، و الأيام الحلوة، لكنها كانت قليلة. لا أذكر شيئا سوى العتبة، والدم يقطر من أيري بعد أن استعمل ” الحجام” المقص في جلدة قضيبي وهو يقول لي أنظر لفوق، ألا ترى، إنه عصفور يحلق في السقف، وما إن نظرت إلى الفوق، حتى أحسست بشيء من جسمي يذبح، كما تذبح الدجاجة، فصدر مني صراخ رج أركان البيت، وبكيت. وما أذكره جيدا أن أبي حملني وأدخلني لفراش أمي حيث كانت تنتظرني متهللة، فقالت لي: ” أنت الآن رجل”. مسحت دموعي، وأعطتني الشيكولاتة والحلوى.
لاشيء آخر مهم يمكنني تذكره سوى الضباب، والشمس، والمطر، الذي كنت أعشق النظر إليه، وهو يسقط تارة بغزارة، وتارة أخرى قطرات. لكنني أتذكر الآن أن بيتنا هذا لم يكن يبعد إلا بمسافات قصيرة عن دار جدي (ت) الكبيرة، حيث يسكن ( أ).
في بيتنا الجديد بعمارة جدي (ت)، التي لا يبعد كثيرا عن سيدي علي بوغالب سأعيش مراهقتي. بيت ليس كبيرا.
ثلاث غرف، غرفة للنوم، وصالة كبيرة، وغرفة للضيوف يسمونها كذلك، ووسط البيت، ثم مطبخ، وباطيو، ومن جهة غرفة الضيوف أذكر أنه كانت هناك نافذة واسعة تطل على فناء صغير يقفل بباب حديدية. كان يسكن بالعمارة أناس من ألوان وأشكال مختلفة: جبليون، موظف بريد، أساتذة. كما كانت هناك سكنى لخالتي (م) بعد أن تزوجت من أستاذ الفلسفة (م)، وجدتي (ف)، وأولادها.
نسيت أن بجوار بيتنا كان هناك بيت أقام فيه العديد من الناس إلى أن انتهى في آخر المطاف إلى يد دركي، كانت زوجته جميلة كالوردة المتفتحة، لكنه كان يضربها، وكأنني وأنا أكتب عن هذا الماضي الضبابي أسمع صراخها، مثلما كنت أسمع صراخ خالتي (م) وهي تكابد من مرض ،كأنما تلبسها جن، ولا زلت أذكر ذلك المشعوذ الذي كان يدعي أنه قادر على علاجها، ولم يكن يرغب سوى في النقود. يا للمكر …!أذكر أنه في الفترات الأخيرة، كان يرسم شيئا على الحائط وهو يقرأ القرآن، ولكنه تخطى الحدود، فلم يعد ينفع معه إلا أن طرده أبي، من بيت خالتي (م)، فهبط الدرجات وهو يلهث ككلب.
وسمعت، ولكنني لم أصدق حتى رأيت ذلك أن بنت موظف البريد تلبسها هي الأخرى جن، كان يتكلم معها، ولم أصدق، ولم أسال أخويها- أصدقائي الصغار السمراوان القصيري القامة، إلى أن رأيت ذلك بعيني. كانت صامتة، وتنظر بعينين كالحجر، وأحيانا تصرخ، ويخرج من فمها شيء أبيض لزج به صفرة. وهكذا لم أعد أصعد عندهم إلى البيت، وكنا نكتفي باللعب في الدرب الطويل، لكن الضيق نوعا ما بالعمارة.
كان هذا البيت يطل على مقبرة شاسعة. مقبرة ذات جدار أبيض مسيج، وبداخلها مقابر صامتة، وأشواك وأشجار متناثرة، كان يمكن النظر إليها من بيت خالتي ( م)، عندما كنت أروح عندها، لأنني كنت لا أبرح هذا البيت، لتعلقي بها ، فكانت تمثل لي “الصدر الحنون”، وهذا الحب لم ينشأ من فراغ، فالأمر لا يقتصر على رابطة الدم، وإنما على قوة الحب البريء، الحب السماوي الذي يقطر عسلا. أو لأقل: ذلك الحب الأبيض.
6-
في هذا البيت بعمارة جدي ( ت)، سأتعلم الحب لأول مرة.
كانت تسكن بجوار البيت فتاة جميلة، ولها إسم خالب، يبتدئ بحرف السين. كانت كالوردة في رقتها، وكالنجمة في ضوئها، غير أنها كانت محبوسة في بيت والدها القاسي، المتعصب، الذي لم يكن يدع بناته يخرجن إلى الشارع، أو حتى يتعلمن في المدارس.
كان قاسي القلب.
كنت أنا عندما يخرج من البيت الشاسع الذي كان يقيم فيه، أقف مترويا النافذة عسى أن تطل تلك الوردة أو النجمة، لأشبع عيناي برؤيتها، إلا أنها كانت تلمحني في طرفة عين، ثم تغلق النافذة بسرعة مخافة أن يعود ذلك الأب القاسي القلب، ويضربها.
كان هذا الأب لا يرحم أحدا من بناته. وكانت ( س) أجملهن. استمرت علاقتي ب( س) لمدة سنوات. كانت علاقة حب عبر النافذة… عبر النظر فقط، ولم يسبق لي أبدا أن رأيتها في الشارع، أو لمست يدي يدها.
كان حبا عذريا… أبيضا. ولم يكن هناك من له القدرة على مساعدتي وإزاحة ذلك الجدار الذي كان يقف عائقا أمام هذا الحب.
لا أدري، هل تزوجت ( س) أم لا؟… حيث لم تعد تربطني بها أية رابطة… فاختفت من حياتي كورقة بيضاء عابرة.
-7-
لا أنكر أنني كنت أفكر من وقت لآخر في ” س”، وكنت أتخيلها وأنا في سن صغيرة زوجتي، غير أن هذا النوع من التفكير بدا لي في وقت الكبر كأنه فقط من ذكريات الماضي، أو لعب من ألعاب الأطفال.
انشغلت في ذلك الوقت بالكتاب.
ولم يكن الكتاب بالنسبة إلي في الصغر سوى زينة، أو شكل فقط. وبمتعة فقط، كنت ألامس بعض الكتب المركونة في ” السهوا”، التي كانت توجد فوق المطبخ، وكانت مكانا لتجميع الكتب الفائضة وغير الفائضة. من ضمن الكتب التي أتذكرها “خان الخليلي” لنجيب محفوظ. وهكذا من هذا المشهد وأنا أقرأ الكتب. وبالفعل قرأت مجموعة كبيرة جدا من الكتب ساهمت إلى حد كبير في تكويني وتثقيفي.
وحتى عندما أكبر سيصبح الكتاب ملاذي.
-8-
بين ذكرى الحب ونيران الكتاب كنت أقضي معظم وقتي. كانت العمارة هي عالمي الخارجي الصغير، حيث لم أكن أغادر البيت كثيرا، وإذا أتت الفرصة وغادرته لن أفلت من عيون أمي (ر)، وكنت ألعب مع أصدقائي الصغار المقيمين في العمارة، وخالي ( ر)، الذي أكبره بسنة تقريبا، ولا أستطيع في ذلك العمر الفتي أن أتحرك خارج محيط العمارة.كان بوسعي الصعود إلى السطح الواسع، واللعب فيه أيضا من دون أن تنزعج أمي. أتذكر أن بنت خالة أمي ( س) كانت تبهرني، وتبهر أصدقائي بشجاعتها، حيث كانت تمشي على أحد الأسوار بقدميها الرقيقتين من دون خوف من السقوط، فكنا جميعا نفزع عليها، ونصرخ بعمق، لكن لا أحد كان يسمع صراخنا، فيما كانت (س) الشجاعة تضحك، وتهبط من السطح منتشية بانتصارها.
لم تكن (س) تعتقد أنها تلعب لعبة الموت، وأنه كان ممكنا أن تسقط إلى الأسفل لتلفى نفسها مقطعة في الشارع… ولكنها لم تبالي أبدا وكررت اللعبة مرارا… وعندما كنت أسألها عن رعونتها واعوجاجها، كانت تقول لي: “إلعب بعيدا أنت لازلت صغيرا، لا تفهم”، ثم تضحك كأن شيئا لم يكن.
كانت “س” تخرج لتبتاع بعض الأغراض من حانوت ” ح”، بجوار بوابة العمارة المفتوحة… آه… تذكرت أن هذه العمارة كانت بلا باب، وكان شكلها مثل باخرة، كانت عيون (أ) الميكانيكي الريفي تتبع كل خطواتها السريعة تارة، والثقيلة تارة أخرى، وما كان يروقه فيها ضحكتها الذكية، كما أنه سمع عن شجاعتها، فأحبها، وانتهت قصة حبهما بالزواج، وهكذا غابت تلك النجمة الضاحكة التي كانت تضيء عمارتنا، حيث وفر لها (أ) كل أسباب الراحة والحب، وماتت في نفسها ذكريات الشقاوة واللعب والمغامرة، وبقيت أطياف من قوتها وشجاعتها تحوم أرجاء العمارة، وتأتيني صورتها في الحلم وهي تتمشى بكل شجاعة على سور السطح كما يحدث داخل لعبة الحبل في السيرك.
بعد سنوات، جاءني عصفور صغير بخبر أن (س) أنجبت أولادا، ولم أعرف عددهم، ولن أراها إلا في زيارة صغيرة.
كانت قبل مغادرتنا للقصر الكبير والعيش في أصيلة.
9-
عندما كنت أسلم على (أ)، كنت أتذكر (س)، لكنني لم أسأله عنها أبدا. كان يملك دكانا لإصلاح السيارات والدراجات النارية وغيرها، وكان يروقني أن أدخل عنده إلى الدكان الذي لا يخلو من رائحة الغاز وأدوات العمل وبقايا السيارات.
بالقرب من دكان (أحمد)، كان يوجد كراج يقيم فيه (ب)، رجل مسن، شعره صغير أبيض، وجهه حزين، يدخن سيجارة “كازاسبور”، عندما كنت أقترب منه تدخل غيوم الدخان إلى حلقي بتعجل، لكنه لا يبالي، ذلك أن الرجل قذف به إلى هذا الكراج كما يقذف بالحجارة إلى الماء.
كان يحبني لكن يد الموت كانت أسرع في اختطافه.
وفي صباح باكر أسلم الروح لبارئه. دفنت جثته في المقبرة المحدقة بالعمارة… ذات المقبرة التي دفنت فيها جثة أختي (م)، تلك الشمس الغائبة.
10-
صباح العمارة مشمس.
أسمع زغاريد نسوان. أسأل: من هي؟… أتلعثم قليلا، ثم أسأل: من التي تزوجت؟ أمي… لا تجاوبني. لكن جدتي تضحك وتقول لي “خالتك (م) ستتزوج”، لكنني أدركت فيما بعد أن الأمر لم يكن إلا خطوبة. كان الخاطب حبيبها (ج).
لكن قصة حبهما لم تكتمل، وذهب بلا رجعة، ذهب إلى مكان بعيد، ولم يعد يظهر نجمه في الأفق، وإنما بقي ذلك النجم ساكنا في قلب خالتي إلى أن ملأه رجل آخر، متيم بسقراط وأفلاطون وأرسطو وابن رشد.
أنا الشاهد على ذلك الحب، لا يمكن لي أن أقول إنها لم تحب زوجها، ولكنها أحبته بطريقتها الخاصة.
ليل العمارة مقمر.
لا أسمع سوى الصراخ…
أذكر درج بيت خالتي الذي كان يطل مباشرة على المقبرة، حيث وأنا صاعد به حاملا إبريقا زجاجيا انزلقت قدمي اليمنى وسقطت على زجاج الإبريق الذي انكسر، فتسبب لي في جرح في يدي. انبثق الدم منه، فصرخت، وصعدت بتعجل عند خالتي التي عالجت جرحي، و حتى الآن لازلت أحمل أثر ذلك الجرح.
11-
ذكرني هذا الجرح بندب آخر.
ذات مساء ربيعي كنت ألعب في حديقة صغيرة مع خالي (ر) و ابن خالة أمي (ج)، وكان سمينا بعض الشيء، لكنه لنزقه تعارك مع صبيان. ضرب أحدهم بلكمة على وجهه، وهرب. تبعه جريا خالي (ر). فجأة بدأت قطرات من الدم تتسرب على جبهتي فارتعبت وخرجت جريا من الحديقة وخالي (ر) وابن خالة أمي يتبعانني إلى أن وصلنا إلى البيت.
صرخت أمي صرخة قوية، ارتعبت عند مشاهدتها الدم.
بعد أن تعالجت حكيت لها ماجرى بصدق. في اللحظة التي جرى (ج) باتجاهي، كان الصبيان يقذفونه بالحجارة.
اقترب منه صبي بوجه مكشر، وقذفه بحجرة، فانحنى، لتستقر الضربة في جزء من جبيني، ولو كانت اقتربت أكثر لكنت الآن في عداد الموتى، لكن الله حفظني.
تمر الأيام والأزمنة وأتحسس رأسي ووجهي وجبيني فيبرز الندب. ولم يعد الآن له أثر، ربما، أثر طفيف، حيث دثره الشعر.
خالي (ر) هو الآخر تعرض لندب في رأسه. دعاني لأرافقه ذات صباح ممطر على الرواح لحمام والده (ت)، لغرض ما، نسيته، لكنني لم أنس عند اختبائنا تحت سقف بيت قرب الحمام من التساقطات المطرية الغزيرة أن سقط جزء صغير من السقف على رأسه، فترك به ندب، ظل يكابد آلامه إلى اليوم.
12-
كان بيت خالتي ( م) يطل مباشرة على المقبرة الشاسعة.
كان يروقني أن أطل من هناك على هذه المقبرة، وأحيانا اللعب بجوارها. وما كان يروقني هناك هو ذلك الرجل الكفيف ( س)، الذي لم أعد أتذكر إسمه. كان يخرج من مقر كان مخصوصا للمكفوفين وهو يتكأ على عكازه، ولم يكن يسمح لأحد بأن يريه الطريق. كان يعرف طريقه جيدا، ربما حفظه عن ظهر قلب. ولكي يصل إلى حانوت (ح) كان عليه أن يعبر الطريق،حيث تعبر السيارات والحافلات وغيرها، وكان الكل يتعجب من كون هذا الرجل الكفيف كان يعبر الطريق بلا ارتعاب.
أول شيء يمكن ملاحظته هو بسمته، الني كانت تنبثق من غور قلبه الكبير، وثاني شيء هو نظارته السوداء. إذ قليلا ما كان يزيلها عن عينيه كأنه كان يخفي عماه. كان يحدثني عن طه حسين، وكنت قرأت “الأيام”، لكنني لم استمتع بها إلا كمسلسل تلفزيوني فيما بعد، حيث كنت حريصا على متابعة كل الحلقات، وكان يروقني الأداء المبهر للفنان الكبير أحمد زكي.
كان هذا الرجل الكفيف، الطيب، حريصا على الحفاظ على عكازه، ونظارته السوداء.
وفي ذات المقبرة التي كان يجاور موتاها، ستدفن جثته في يوم ممطر.