سيروية الرأس الكبير ليوسف خليل السباعي

يوسف خليل السباعي

اللويحات الثالثة:

25-

“أوبيدوم نوفوم” مدينة بلا بحر.
كانت مدينتي بلا بحر كعذرائي السجينة في بيتها.
أحببت القصر الكبير، وهذا الحب كان يحملني على الاعتقاد أوانها، وربما بشيء من الحدس، أنه في إمكاني استرجاع ذكريات ، وأحياء، ووظائف، وأسماء، وأجساد وأشياء… أو تخيل مكانية ما بالمعنى الهندسي للكلمة.

كانت مدينتي محرومة من الماء. لكنها كانت مدينة حارة ذات وحدات متقطعة، وإيقاع، وخطاب كأنها كانت أوانها تتحدث إلي أنا، وإلى الناس، وأنا أتحدثها… أعبر كل طرقاتها وأحيائها وشوارعها. أدخل مقاهيها، مطاعمها الصغيرة، أمكنتها الترفيهية، قاعاتها السينمائية، أسواقها، سكتها الحديدية. لكنه كان من الصعب جدا التأقلم مع هذه المدينة المحرومة من الماء، لا وجود لشاطيء بحري. ولهذا كان “مولاي بوسلهام”، و”أصيلة”، وشواطئ تطوان الكبرى مأوى وتعويض.

كانت هذه المدينة تتشكل على هيأة سفينة آركو.
كان للقصر الكبير لغتها. لغة تشبه لغة السينما أو لغة الأزهار أو لغة الأحلام. كان مولاي علي بوغالب مأوى… ضريحا منظما لباقي الفضاء المديني. كان محاطا بمقبرة عميقة تخفيها الخضرة.

مولاي علي بوغالب تلميذ الإمام بن العريف الصنهاجي، وأستاذ القطب أبي مدين الغوث.. “ولد ب”شِلب” بغرب الأندلس جنوب البرتغال، وكان من أسرة ثرية، وكان شغوفا بالعلم، انتقل إلى قرطبة واستوطنها وعمّق بها دراسته، وأخذ من علوم الحديث والسيرة والتفسير والعربية، وتعمق في علم الرياضيات، فأخذ عن أحد أئمة الحساب في بلاد الأندلس وهو أبو العباس أحمد بن عثمان الشِّلبي. هذا الرجل حمل راية الحضارة والعرفان بإعطاء دروس في الحديث النبوي في المسجد الأعظم، وكان يربي المريدين بتعليم الأمداح النبوية بالطبوع الأندلسية، فانتفع بذلك العام والخاص، وأصبحت مدينة القصر الكبير بهذا نقطة جذب لطلاب العلم والمعرفة في أنحاء المغرب، مما زاد المدينة قوة وشهرة”.

قال الخمّار:
– وجدت في إحدى الكتب المحققة أخيرا رسائل لمولاي علي بن أبي غالب، والمعروف أن هذا الولي الصالح قد ألف عدة كتب منها “اليقين” وهو مفقود.
قال (أ):

– كان جندي قصري يقيم بالعرائش جند في غضون الحرب الأهلية التي جند لها “فرانكو” كثيرا من مغاربة الشمال سنة 1937. وبمدينة أوفيدو بشارع الأمير بإقليم أستورياس عثر هذا الجندي في دار كولونيل في الجيش الجمهوري الإسباني على صندوق، فظن أنه كنز، فحمله بمساعدة جندي آخر قصري وكان الجنديان مجندان في الجيش النظامي الاسباني “الريكولاريس” رقم 3 بمدينة سبتة. ولما فتحا الصندوق فوجئا بوجود مجلد ضخم (…)، وهو مخطط بماء الذهب وبعض الألوان الأخرى، وبين أوراقه يوجد ثوب من الحرير لحمايتها، وهو لا يزال وقتها في حالة جيدة، فحمله الجندي، وأصبح الكتاب يتنقل معه، وقد وجد فيه إسم مولاي علي بوغالب والمدينة التي ولد فيها بالبرتغال ومكان دراسته، ويحكي الكتاب عن ذهاب مولاي علي إلى فاس وولايته بالقصر الكبير.

قال الجندي:
– إن الكتاب أخذه منه كوماندار يدعى كلوديو الذي كان يقود الطابور الثالث للجيش النظامي الاسباني…
قال (أ):
– توفي مولاي علي بوغالب بالقصر الكبير، ودفن بعرسة كان يملكها حبسها في حياته لكي تستخدم كمقبرة، وضريحه واقع بها وهي أكبر مقبرة في المدينة، وبني على قبره ضريح ونقشت عليه نقوش بالجبص ورصف بالرخام… وعليه قبة تاريخية حافلة أودع فيها من دقائق الفن ما يستحق العناية.. أمر ببناء قبته في القرن الثامن عشر الباشا أبو العباس أحمد بن حدو البطيوي حوالي 1685، وفي سنة 1925 رممت القبة من طرف القنصل isorodo de las cagicas .
لم يكن يبعد هذا الضريح عن عمارة جدي (ت). وعلى طريقه الذي يؤدي إلى مركز المدينة… كان يتجمع شبان ومراهقين، وأصدقاء الدراسة.

26-
كان هناك في “أوبيدوم نوفوم” نوعين من الأصدقاء: أصدقاء الدراسة وأصدقاء التجوال والنقاش… هؤلاء كانوا قلة. لكن أصدقاء الدراسة كانت تجمعنا رحلة دراسية عميقة، برغم صعوبة بعض المدرسين. كان مدرس الرياضيات شديدا وعصبيا، يضربنا في حالة عجزنا عن إيجاد حل لمسألة رياضية. وهذا أثر في بعضنا، وأصبح الخوف سيد الموقف. كنت أرفض طريقته في الضرب. كان ساديا.
في الثانوية المحمدية سأشعر بتغير.
كان أبي حارسا عاما في هذه الثانوية. وسيشكل قسما على هواه، وبطريقته، لإرضائي. كان كل أصدقائي بالتقريب في هذا القسم: (أ.ي)، (ع)، (ي)، (م.ي)، وخالي(ر)، وآخرون، لا أتذكرهم الآن.
كان ( أ.ي) الأقرب إلي. لم تكن صداقتنا عادية. لقد كبرنا معا، كان بيته بيتي، وأمه الريفية (ف) مقربة من أمي (ر) كثيرا. وأبوه ( م) مقرب من أبي (خ). وخالته ( ت) مقربة من خالتي ( م). لكن طريق كل واحد منا كان مختلفا. اختار هو العسكر واخترت أنا الأدب.
ذات مساء، جاءني عصفور بخبر أنه مات في حادثة سيارة. أسيت كثيرا. لكنني لم أذهب في جنازته.
كان هناك تلميذ جبلي لامع. نسيت إسمه. يأكل الرياضيات أكلا. مثابر، عنيد، ولكنه طموح.
كان هذا الجبلي يقيم ب”الداخلي”، لكنه كالنمس. وكان حافظا للقرآن ومجموعة من المتون وكان يذكرني ب ( س)، الذي كان أباه ” يقيد رجليه بسبب فراره المستمر من الكتاب، بسلسلة طويلة مربوطة بأحد أعمدة المنزل حتى تسمح له بالتحرك في ساحته وسائر مرافقه، وتعيين فقيه غليظ القلب يقض مَضجعه يوميا قبل الفجر لتحفيظه القرآن…”.

في هذه المرحلة سأكتشف عالما سحريا هو السينما. وسيكون ولعي بداية مع أفلام السينما الهندية. أفلام شاشي كابور शशि कपूर. كان يروقني أن أتفرج ببراءة على أفلام هذا الممثل في مشاهد الغناء والضرب مع أميتاب باتشان كديوار، هل أور هل بانش ونامك حلال.

27-
كان تأثير السينما الهندية كبيرا. وبرغم وجود الأصدقاء، والعائلة الكبيرة، كنت أشعر بالعزلة… ولا أعرف ما يخبئه الليل.
كان ليل القصر الكبير ساحرا. ولن يتذوق طعم هذا السحر إلا شاعر.
عندما زار القصر الكبير، قال نزار قباني، وهو جالس على كرسي بشارع مولاي علي بوغالب:
– وأجمل ما في القصر ليله.
وعندما سمعت ذلك، قلت في سري:
– لوكان لوركا موجودا في القصر لقال عنه: ” الليل أليف مثل ساحة صغيرة”.

28-
كانت سينما “أستوريا” جميلة.
كانت فضاء للفرجة… لكنني لم أكن أحب الدخول كثيرا لهذه السينما التي كانت تعرض أفلاما متنوعة، وجميلة. كانت بريس كالدوس هي السينما المفضلة لي، ولأصدقائي. كانت هذه السينما متخصصة في الأفلام الهندية.
كان لهذه الأفلام في تلك المرحلة طعم خاص، وربما كانت العاطفة والضرب هما ماكان يجعلانني أحب هذه الأفلام. كانت العاطفة تشتغل بشكل رائع، فيحدث التماهي مع البطل.
وعندما كنت أخرج من السينما يبق أثر الفيلم كاملا.
ثمة سينما أخرى سيكون لها الفضل في إخراجي نوعا من هذا ” التأثير الهندي”، هي سينما المنصور.
أذكر الساحة الصغيرة الدانية من بيت صديقي ( أ.ر)، التي كنا نرى منها ملصقات الأفلام. كانت تلك النظرات للملصق هي التي تحدد اختياري للفيلم، لكن الفيلم الهندي دائما ستكون له الأسبقية. كانت محتويات هذه الأفلام تمزج بين الغناء والعاطفة و الضرب أو القتال. وكنت أستشعر في بعض مشاهدها حزنا، هذا الحزن هو ما كنت أرغب في المكث به وكأنني وأنا أكتب الآن عن هذه الذكرى استحضر هذه الجملة لرولان بارث، الذي قال:
– أرغب في شيء واحد فقط هو أن أسكن حزني.
والحقيقة أنني عندما أكتب عن هذه الأشياء أجدني ساقطا في بحر هذه الجملة التي كتبها رولان بارث:
– الكتابة من أجل التذكر؟ لا، أنا لا أكتب لأتذكر ولكنني أكتب لأصارع النسيان الذي يعلن عن نفسه ويأتي دائما بصفة مطلقة أكتب لأصارع مسبقا الجملة التي ستأتي وتقول «لم يبق منها أي أثر في أي مكان» من هذا الصراع أدرك جيدا ضرورة تشييد الآثار التاريخية…
ستكون سينما ” المنصور” مأوى متغير في مراحل.
كان عمي (م) مديرا لسينما ” المنصور”. شاهدت بها أفضل الأفلام. وكان فيلم ” الوصايا العشر” لسيسيل بي ديميل أشهرها.

29-
كانت سينما ” المنصور” نافذة أطل منها على عالم سحري. متخيل. وبهي.
شاهدت في هذه السينما أفلاما بعدد النجوم… ومن هذا العالم الساحر… البهي… بدأ يختفي الفيلم الهندي تدريجيا.
لم تعد العاطفة تشتغل كما كانت عليه في الماضي.
كان عمي ( م) مديرا لهذه السينما. وكان يتيح لي فرصة ( فرصا) لمشاهدة أهم الأفلام كما هو حال فيلم ” الوصايا العشر” الذي شاهدته أكثر من مرة. كنت أنبهر بمشهد شق الممثل الذي يؤذي دور “النبي موسى” بعصاه البحر، مشهد جميل ورائع كان يجعلني فاغرا فمي في تلك المرحلة. شاهدت هذا الفيلم من نواة مخصوصة… في الأعلى بعيدا عن الجمهور كأنني سابح في سماء مظلمة تنيرها بعض النجوم الطفيفة.
كانت هذه النواة قريبة في جزء منها بفضاء تشغيل آلة السينما. كنت قبل بداية تشغيل الفيلم أدخل إلى غرفة عامل السينما، ذلك الرجل الخفي بملامحه الصلبة، الذي لا يضحك أبدا، لأنه منهمك في العمل. كان هذا العامل ينور ظلمة القاعة السينمائية، يكسرها، وكنت أنظر من نافذة صغيرة إلى الشاشة البيضاء الكبيرة، التي يشغلها خيط ضوء مثل شعاع النور الذي يظهر في القاعة إذا نظر إليه من تحت، هذا الشعاع هو ما تصورت يوما ما أنه هو الذي يخلق تلك الكائنات التي تضحك وترقص وتتصارع وتتعارك وتحب وتقبل بعضها البعض على الشاشة الكبيرة العملاقة، ثم بعد دخولي إلى غرفة العامل الخفي تغيرت نظرتي إلى هذه الأشياء وتجلت لي الحقيقة.
حقيقة مشاهدة الفيلم .
كان وراء كل هذا العمل التركيبي عامل بسيط، لكنه منزو في غرفة صغيرة مملوءة بآلات تشغل الفيلم. كان هذا العامل يحرك عالما فيلميا سحريا كاملا، لكنه كان أيضا يستعمل المقص كأنه رقيب على الفيلم، حتى لا تظهر مشاهد تخدش الحياء، وأنا لم أكن أدرك كل هذا العمل، الذي له معاييره، وأدركته في مراحل أخرى من حياتي. بيد أن هذا العامل البسيط الخفي كان لا يتكلم بتاتا، صامت كالحجرة، لكنه يشتغل. يداه تتحركان، عيناه ترقبان حركية الفيلم في الآلة العجيبة. وعندما يظهر مشهد عري، أوقبلة البطل للبطلة تضج القاعة بالتصفيق وبأصوات تتدفق بكل الكلمات النابية وغيرها.
كنت معتزا بنفسي وفخورا جدا بأنني كنت سباقا لا كتشاف خفايا هذا العالم الساحر والبهي ، وكنت أكن حبا عميقا لعمي ( م)، الذي أتاح لي فرص اكتشاف هذا العالم… وكيف يشتغل، ومن يحركه.

30-
ذات مساء، كان ثمة زحام فظيع على شباك التذاكر لمشاهدة فيلم، لم أعد أذكر عنوانه.
كانت ثمة فوضى كبيرة، جعلتني أتراجع بخطوات إلى الوراء، وأنا أرقب ما يحصل من زحام وعراك وفوضى على الشباك.
ذكرني كل هذا أيام كنت أجلس مع عمي (م) في البؤرة المخصصة لقطع التذاكر الذي كان يشتغل بها بنفسه في بعض الأحيان، وعندما يشتد الزحام على شباك التذاكر، وتنقض الأيدي على الشباك بتلهف كان يستخدم مطرقة يضرب بها كل من سولت له يده على التسابق على التذكرة، كان يضرب بخشب المطرقة، وكنت أنزعج، لكنني لم أكن قادرا على أن أكلمه في الموضوع، بعد ذلك يطلب مني بألطاف أن أصعد إلى نواتي لأحتمي بها وسط الظلمة وكرسي وحيد بقصد التفرج على الفيلم.
كان الزحام يجعلني أتراجع قليلا إلى الوراء وأرقب حركات وصراخ وعنف الجمهور الذي يتسابق على التذاكر ليحظى بالصفوف الممتازة.
كان صوت خفي يدعوني للعودة إلى البيت. لكنني لم أكن أكثرت بالصوت وأنحشر وسط الجموع المزدحمة وأدخل… كنت أسأل في سري: ” لماذا كل هذا الزحام على فيلم؟” ولم أكن أجد إجابة لسؤالي. كان السؤال يتبخر في داخلي ووسط الزحام يضيع. الزحام يتضاعف، يشتد كالمطر، وعمي (م) يصرخ في وجه الجمهور المولع بالسينما.
في هذه المدينة المحرومة من الماء كانت السينما المتعة الوحيدة.
كان عمي يريد أن يحافظ على النظام. وما أحلاه حين تراه واقفا ضما كلتا يديه أيام تكون السينما هادئة، والشارع صامت، وهو ينظر من أمام باب السينما ويبتسم. كل هذا لكي لا تقع الفوضى في السينما. وبالرغم من كل هذا الاحتياط خرج رجل وهو يتألم واضعا يده على بطنه. كان الرجل مذبوحا. لقد طعنه أحد المنحرفين بمدية في بطنه واختفى كلمح البصر.
سقط الرجل نازفا دمه.
بعد برهة، دخلت إلى السينما. صعدت إلى نواتي أرتجف خوفا.
كان الفيلم قد بدأ.

31-
كنت أجد متعة في المرور من الشارع الذي يؤدي إلى سينما المنصور. كان يروقني التملي في أحد الدكاكين، الذي لم أعد أذكر ماذا كان يبيع صاحبه، كل ما أتذكره أن سوقا كبيرا هناك كثيرا ما ترددت عليه لابتياع بعض الأغراض، أو لمجرد التفرج على البضائع الصغيرة والكبيرة. شكل من أشكال قتل الفراغ، لكن هذا الفراغ، برغم عناده، سينتصر علي. أتذكر دكانا لبيع الأثواب، كان هناك. وما إن أتمشى قليلا، حتى ألاقي ساحتي الصغيرة الأثيرة… التي تذكرني بصخب المدينة… بالحياة… بالدفق البشري… حيث أتشمم رائحة القهوة المختلطة بنار الحطب أو بساخن تلك المتاهة… أو ذلك الركن القصي في حمام الرجال الذي يتكوم فيه با ادريس كأنه سجين ينتظر التسريح.
كان قلبي يدق عند مروري من هناك، في الليل. يدق سريعا. كان يخيل إلي أن شبحا يتبع خطاي… أينما اتجهت، يتبعني، يريد أن يخبرني بشيء. ما هو؟… لا أدري… شيء غامض، ومتألم كالخريف.
وعندما كنت أسمع حركة الشبح، وأحاول أن أمسك به، يختفي.

32-
كل تلك الصور كانت تأتي على شكل أحلام.
كل تلك الأسماء أو الحروف كانت ماثلة. لكنني لم أعد أميز شيئا.
أتذكر كتابا كنت ألمسه بيدي صغيرا من دون أن أقرأه ( سأقرؤه فيما بعد، هو مسرحية شعرية عن معركة وادي المخازن لحسن الطريبق).
كل الآثار باقية، هنا.
التاريخ وحده قال، وسيقول كلمته عن هذه المعركة، التي بقيت راسخة في الذاكرة.
لم أعد إلى المسرحية الشعرية أبدا.
ماذا حدث؟…
ذاك هو السؤال.

33-
نهر من الدم.
سبستيان المجنون المشتهي للعظمة بقي جثة ” مؤجلة”.
عندما غادرت القصر الكبير مع أسرتي، والسيارة تخرم طريق العرائش كان صوت عبد الملك يأتيني من حواف القنطرة: ” إني قد قطعت للمجيء إليك ست عشرة مرحلة، فهلا قطعت أنت مرحلة واحدة لملاقاتي”. ثم يحل الصمت كما لو أن سماء زرقاء غلفت الكون. وأتخيل المتوكل غارقا في مياه النهر الذي تحولت إلى اللون الأحمر، حيث غرق معه غدره وخيانته.
لم أحس أبدا بمتاعب الطريق. بعد برهة، سنصل إلى أصيلة لتتلقفنا ثانوية وادي الذهب.
ثانوية شاسعة بها بعض المنازل. فضاء الإدارة. أقسام الدراسة. بئر. مساحات خضراء مشجرة شاسعة، وأشياء أخرى لم أعد أتذكرها.
في هذه الثانوية سأقضي معظم أوقاتي.
لم تكن أصيلة تجسد لي سوى فضاء للبحر والقراءة، بضع صداقات، وعلاقات غرامية هاربة.
أسير على شاطئ البحر وحيدا، أتامل سفينة قديمة محطمة نائمة على الرمال.
وليس بعيدا ثمة مقهى “زريرق” المشهورة بإعداد الشاي الأخضر المنعنع، تعرف حركة غريبة.

34-
المقهى التي تطل على البحر وتعرف أسراره وظلمات قعره. المقهى الأسطورة بمقاعدها الزرقاء البسيطة ، ومصطبتها القصبية، وبمزروعاتها التي تزين هذه النواة البحرية.
زرقة ليست كثيفة، باذخة، وشاملة. تتأثر بالبحر، تجره إليها، لكنها لا تستحيله.
شيء غريب.
هي، التي تستقبل البحارة بوردة صباحية… بحارة راحوا في قعر البحر أو عادوا منه. وجوههم بها صفرة، من الكد، يلتقطون رزقهم من فكي البحر. هنا تروى الحكايات… ويمكن اشتمام رائحة البحارة الزنخة.
ألم يمر يوما من هنا إدمون عمران المالح؟… كأنني أرى روايته ” مقهى زريرق” تسبح فوق مياه بحر أصيلة لهنيهة، ثم تغرق… تغرق…

Loading...