سيروية الرأس الكبير ليوسف خليل السباعي

يوسف خليل السباعي

اللويحات الرابعة:

أتذكر ( ع) كان مثل أبطال الأساطير. لا يقدر أحد على سحقه، ولا يقبل هو بالاندحار. كان يحلم بعبور المحيطات، ولا يهاب الموت… الليل الدامس… كان يجابهه بكل قدراته (العضلية) كأنه مصارع ملاكمة. فقط بضربة واحد وسط الحلبة الضيقة، غالبا ما تكون قاضية، يجعل خصمه يتهاوى كتفاحة أو كجدار.

كانت “القريقية” مأواي. ما كان يروقني فيها، لاجدرانها، أو أحجارها التي كنت ألامسها بيدي اليمنى فأحس بأن التاريخ ينطق، حيث تستحضر الذاكرة كل الوجوه بتنوعاتها، تلك التي مرت من هنا…أكاد أسمع أصواتها، صيحاتها، بكاءها… بل كان شيئا ينبثق من جسم التاريخ. هنا راسخ كالوتد.

كان مساء “القريقية” يسحرني. غروب الشمس… الذي كنت أنظر إلى أماراته وأنا أر الفتيات الخالبات يتضاحكن، وعيون رجال الشمس المتهيجة…كل هذا كان يجعل البؤرة البحرية والحجرية تتحول إلى أشكال أنثوية، أو إلى دوائر، فأحس بخفقان قلبي، واضطراب لا أعرف سره حتى الآن.

كان ( ع) يأتي إلى “القريقية” يجر وراءه عربات مملوءة بالأصدقاء كأنه أحد أبطال الأساطير… عاريا… يتقدم صوب الحجرة المستطيلة ويرمي بنفسه من علو إلى البحر المتهيج. يختفي في أعماقه كأنه يعود إلى الأصل…كنت أحس بأن شيئا أموميا يملأ “القريقية”، شيء له صلة بالحنو، السكينة أو الطمأنينة الني كان يفتقدها ولد “مرج أبي الطيب”، الحي القصديري المليء بفقراء أصيلة.

36-

كان ” مرج أبي الطيب” لا يبتعد كثيرا عن ” ثانوية وادي الذهب” التي أقيم بها. تعرفت هناك على ” الأصفر”. كان يتابع دراسته بنفس الفصل الذي كنت أدرس به.
كنت أزور ال ” مرج…” من وقت لآخر، وتحديدا، السكن القصديري ل “الأصفر” الذي ينتسب لأسرة فقيرة، أعجز عن توصيفها، خلا أنها أسرة كريمة.
كان يشد تنبهي في هذا البيت الفقير امتلاك ” الأصفر ” لخزانة كتب صغيرة. هاهنا سأتعرف على حسين مروة، محمد عابد الجابري، الطيب التيزيني، أدونيس، والرائع محمود درويش. وفي لحظات عميقة كنا نقرأ سويا بصوت مرتفع قصائد لأدونيس ودرويش، فتحضر ( فلسطين) قمرا صامتا، هادئا كسحابة صيف عابرة.

كنت أقول في سري مستفهما: ” هل قدر على هؤلاء الناس العيش في تلك القذارة طوال حياتهم؟”… ولم أكن أقبض على الجواب. كان لابد أن يأتي يوم ينتفض فيه هؤلاء المظلومين على الظالم، ويستأصلوا الفقر والجهل والاضطهاد ليعيشوا كما الآخرين.
كنت أحلم بتحقيق هذا الأمر.

ومن غير تفكير، أسأل: هل سيتحقق ذلك يوما ما؟… لا أدري…لكن أين هو ” الأصفر” حاليا؟…
منذ أن غادرت أصيلة اختفى، لم تفضل معي سوى صورته بقسماته الدقيقة الشاحبة، وشعره الأسود الأشعث، وابتسامته الغامضة.
اختفى ” الأصفر”…

لا أثر له.كان مثل غيمة غرقت في بحر لا قرار له… أو كمثل شبح. لم تفضل إلا الذكرى المريرة… الذكرى المتهللة… أحيانا… المتبقية كشجرة عملاقة مغروسة في جذور القلب.

هل كان “الأصفر” أحد الحالمين أم الملعونين؟.
وحده القادر على الإجابة عن هذا السؤال.
عندما كنت أغادر ” القريقية” مارا بالأسوار و البحر، قبل وصولي إلى الحيطان الملونة، حيث تغدو لوحات آسرة تنطق بحكايات وأساطير، كان لابد لي أن أدلف إلى قصر الريسوني، معقل الثقافة، ومعقل الشعر. هاهنا سمعت عن كثب شعر أدونيس (كان صوت طير حلق بي في سماء عالية. هذا العابر العاشق لأصيلة حد الهوس، مدينة الشعراء، والحالمين والملعونين)، المهدي أخريف، ابتسام أشروي، العليوي، الوسيني، الريسوني، المنصوري، الشبرعال وآخرون.
أصيلة، المدينة الساحرة، تلك التي تكتب شعرها بحبر البحر.


37-

في هذه البؤرة البحرية الأكثر ثراء، كانت لي عاشقات: (ن)، (س)، (ب)، عاشقات عبرن جسدي اللاهث وراء سلطان الحب، وسحر النشوة.
الحب. أي حب؟… هذا الذي لم يكن إلا حلما.
الحق أقول لكم إنني لم أعشق في أصيلة سوى بحرها، وأناسها الطيبين. ولم تكن ثانويتها سوى ” إقامة عابرة”. ومع هذا كانت الاستفادة كلية: تعلم للغة الفرنسية: كان يحضر كامو، هيغو، بالزاك، مالارمي…، كماكان المدرس “كالبو” يعلمنا بإتقان.
كان عطر ” كالبو” جميلا، ساحرا، يملأ، فضاء حجرة الدرس. وكان يمشي كالأيل. حببني كثيرا في الفرنسية، التي ترجمت منها، لا حقا، كتابات رولان بار ت.

38-
ألم تكن أصيلة خطاب عاشق.
كل وجوه النساء تطل علي من جدرانها وأقواسها وحواريها وشوارعها الوهجة.
كان قلبي يدق وأنا أمر من تلك الطريق المؤدية إلى البحر.
أحيانا يخيل إلي أن حروف إسمها موزعة على سطح البحر، تناديني، فألهث جريا وراءها لأمسكها متجمعة، فتهرب، وتتسرب…
كان حبي ل ” س” يقظا. حييا، ككرة الثلج.
ولم تكن هي تبادلني نفس الشعور، كأنها تعيش في كوكب آخر.

وكان الألم.

وكنت أعرف، بعد الفراق، أننا لن نلتقي مرة أخرى.
وبالرغم من قرابة الدم، كان البون شاسع.

لم تبق سوى الذكرى تحفر عميقا في جسدي الذي لن يغفر لها كل ذلك العذاب الذي لم يمحي بسهولة.

والآن، إذ أتذكر كل تلك اللمسات والهمسات والضحكات واللعب وجوى الفراق أبكي، وأعانق البحر الذي يعرف أحزاني وأسراري.

39-

ولم تكن (ن) سوى ذكرى من حياة هاربة.
كانت هي التي تعشقني حد الجنون، وكنت أنا أميل إلى (ب).

كانت صديقة لأختي (ف). ولم أبادلها ذلك العشق.
كنت أفكر في (ب)، بعد أن غادرت ( س) أصيلة، حيث لن نلتقي أبدا.

40-

كانت ( ب) جذابة. جميلة. كنت أعشقها بجنون. وأميل إليها كثيرا. أفكر فيها في كل الأوقات. وفي الليل كان يجمعنا أحد الأقسام، الذي يكون خاليا.

كنت أختلي بها حين يهبط الليل. فتعبر جسدي وأعبر جسدها كما لو أننا نرتق جبلا.

لا حركة في الليل. سكون. فقط بعض الكتب (…) التي كانت موضوعة على طاولة المدرسة، المقاعد والسبورة السوداء التي تتفرج علينا وتضحك، لكنها لن تقدر على كشف هذا السر الذي بقي حبيس القسم الدراسي، لأنها جامدة، وإن كنت في بعض الأحيان أتحيلها أبي أو أمي، أو حارس الثانوية.

كانت (ب) تجيد المجامعة وأكثر ما تجيده القبلة، القبلة العميقة، التي ترج كل الأحاسيس.

وأنا أكتب عنها أراها تمشي أمامي، شعرها بني منسدل كشعر فرس. وجهها أسمر خالب. عيناها بلوريتان. أنفها دقيق وشفتاها رضاب، وجسمها رشيق. وهجة. ذكية، وتجيد المضاجعة.

كانت تكابد احتراق أفراد عائلتها في حادث مأساوي، وكنت أصبرها، وحين تتذكر الحادث تبكي بحرقة.

الآن غابت كجنية بحر أصيلة التي كانت تزورني كل ليلة في سريري حين بقيت شهرا كاملا لوحدي بالبيت بعد أن غادرت أسرتي أصيلة للإقامة فى تطوان مودعة مدينة الملعونين والحالمين إلى الأبد.

Loading...