دال الكمامة في اللوحات الثلاثة للفنان التشكيلي محمد بوزباع

يوسف خليل السباعي

من خلال تأملية للوحات الفنان التشكيلي محمد بوزباع التي رسمها عن وباء كورونا، والتي نعيش كل يوم تدميرها النفسي والاقتصادي والاجتماعي للبشرية جمعاء، وما نجم عن هذا الوباء الفتاك من خراب، وموتى، برغم تعافي حالات بشرية منه، وخضوع المصابين وغيرهم لاختبارات، وانتظار نتائج الحالات الإيجابية والسلبية، وكذلك ما شكله هذا الوباء اللعين من آثار وتأثيرات نفسانية، واعتقالات في صفوف من اخترقوا مراسيم حالات الطوارئ الصحية وتقييد الحركة، والدخول في عتمة الحجر الصحي والعزل المنزلي، إلى غير ذلك من الأمور الخطيرة مجتمعيا التي عرفها هذا الحجر الصحي بسبب الوباء من تكاثر للعنف الأسري، نلفي أنفسنا أمام ثلاث لوحات لمحمد بوزباع

تلامس فنيا وتشكيليا هذا الموضوع الوبائي الفتاك، الذي سيسجل التاريخ آفاته وتداعياته وآثاره المدمرة الخطيرة على البشر في كل الأقطار، كما سجل ذلك مع أوبئة كانت لها عواقب وخيمة على الحياة العامة للبشر.

لقد ألف بعض الكتاب روايات عن أوبئة سابقة، كما هو حال ألبير كامو في روايته “الطاعون”، ومسرحيته “حالة طوارئ”، ولكن الأمر عند محمد بوزباع مختلف، إنه لا يكتب بقلم، وإنما يرسم بفرشاة، وألوان، يبرز لنا موضوع الوباء من خلال دال الكمامة، فاللوحات، بطبيعة الحال، لا تؤثر علينا بالألوان التي هي مختلطة ومهتاجة، والمتشكلة في اللوحتين، بين الرمادي والبني، واللوحة الثالثة التي تركها الفنان باللونين الأبيض والأسود، وإنما بدال الكمامة، التي هي، في الجوهر، قناع، لكن هذه الكمامة، أو القناع، لا علاقة لها بمانراه في المسرح، إنها ليست الوجه الثاني، إنها ليست ذلك المقنع الخفي، ولكنها وجهنا الجديد، الذي لاوعي لنا به، مع أنه المقنع الظاهر.

شيء ما يلتصق بالوجه في جزئيةما، يلمح، بهذا القدر أو ذاك، إلى المسافة، والتبعيد، أوما يسمونه بالتباعد الاجتماعي حسب الدوكسا: ذلك الرأي الشائع. فإذا كان الفنان التشكيلي يوسف الحداد يشكل نظرته للمسافة من خلال لوحة له عن “شخوص” وظلالها الزرقاء، أو يحدثنا تشكيليا من خلال لوحة ثانية عن هيكل عظمي عن الموت، وإذا كان الفنان التشكيلي محمد الجعماطي من خلال ألوانه المائية يرسم لنا أجزاءا من المدينة الفارغة تحت حصار الوباء الفتاك تشكيليا، فإن الفنان التشكيلي محمد بوزباع، من خلال قراءته المتمهلة، وأخذه المسافة بينه وبين الوباء الفتاك، يرسم دال الكمامة، أو القناع كغطاء، للوجه (جزء جسدي)، في مسافته، وتبعيده.

ونحن نعرف، بإدراكنا، دلالة الغطاء عند محمد بوزباع، إنه نوع من الستر، والتعرية، فالكمامة، القناع، والذي كما سبق أن قلت، ليست مشكلة مسرحيا، فهي تستر فقط جانبا من الوجه، ولكن لا يمكنها تغطية الوجه كاملا، حيث تظل العين، التي هي رمز للرؤيا متحررة، وكذلك شأن اليد التي ترتفع، في اللوحة الأولى إلى الأعلى وكأنها تقول: كفى! فالعين اليمنى في اللوحة الثانية ملتبسة، غريبة، ولكنها حانية، وغير متنبهة، إنها حائرة، وهذه الحيرة في العين المدهشة هي التي تعطي جمالية للوحة، أليس للعين حكاية، كمالها تاريخ، إنها نظرة ميتافيزيقية، ولو أنها مجسدنة، ولكنها غير معقلنة، أو بعبارة أخرى، إنها عين مفتوحة على المجهول، وبما أن الوباء الفتاك عدو خفي، فلا يمكن لنا أن نتكهن بأي شيء. إنها عين تنتظر غودو (في انتظار غودو لصامويل بيكيت). أما العينين المغمضتين في اللوحة الأولى، فإنهما بلارؤيا. بيد أنهما ينهمران في اللاشعور، ذلك الباطن المعتم حيث تتصارع الأهواء والتخيلات واللغة، إنه عالم الأحلام المتشابكة والمتداخلة. ثمة حالة شعرية سحرية في هذه اللوحة تبرز مهارة الفنان التشكيلي محمد بوزباع واحترافيته، وإبداعيته.


وفي النهاية، نلفي أنفسنا أمام لوحة ثالثة بالأبيض والٱسود، شخصها متخن بالجراج، وهي لوحة مدهشة، لوحة يتداخل فيها الحزن والأثر النفسي لهذا الوباء الفتاك على البشر، والذي جعل من الكمامة دالا على المسافة، والتبعيد، واغتراب الإنسان المحتجز والمحاصر تحت الحجر الصحي والقيود بسبب هذا العدو الخفي: كورونا المستجد.

Loading...