يوسف خليل السباعي
الفصل الأول
بيرخينيا الجميلة
لم تكن لحظة وداع عادية بالنسبة إلي.
عندما ركبت بيرخينيا الحافلة مغادرة “تطوان”، لم تكن وحدها، وإنما برفقة صحفيات وصحفيين قدموا من مدن مختلفة من إسبانيا للمشاركة في مؤتمر صحفي مغربي إسباني كان موضوعه الرياضة والسياحة. ظللت واقفا كالصنم، ولم أصدق أنني لن أرى بيرخينيا مرة أخرى.
ما إن انتهينا يوم الأحد من رفع التوصيات بإقامة ” لاكسيا” الواقعة برأس الطرف حتى وجدت نفسي جنبا إلى جنب بيرخينيا على مائدة الأكل في مطعم ” الشعيري” الذائع الصيت.
كان جمال بيرخينيا فاتنا، وساحرا مثل عطرها الذي كان يغوي الكل.
لم آكل كثيرا ذلك اليوم، حيث لم أحس بالجوع، رغم أن الأكلة السمكية كانت مشهية للغاية. كنت مرهقا بعض الشيء، ربما من متاعب المؤتمر، والمهمة الموكولة إلي فيه، حيث كنت العين الأمينة على زملائنا الإسبان، وذلك برغبة من رئيسي إبراهيم.
كلمات بيرخينيا كان لها أثر كبير ليس علي أنا وحدي، بل على الكل، كلمات قاطعة كحد السكين.
قالت: ” كيف يمكن بسهولة أن يتخلوا عنا كما لو كنا فقط حشرات”.
لم أفهم ماذا كانت تقصد في البداية، لكنني أدركت، بعد برهة، أن بيرخينيا طردت من عملها الصحفي بعد سنوات من العمل المتعب، وحبها للمهنة. كما أدركت أن ذلك الطرد كان بسبب الأزمة الاقتصادية التي تعيشها إسبانيا.
وأردفت قائلة: ” ما ينبغي علي الآن فعله بعد العودة إلى روندا هو البحث عن عمل جديد، لكن ذلك أمر صعب للغاية”. ثم سكتت من دون أن تنبس بالكلام.
كان صمتها مخيفا، يحمل أسرارا عن واقع مهنة الصحافة في إسبانيا، وواقع الصحفيين ضحايا الطرد الذي نزل عليهم كالإعصار. لكن هذا الأمر لم يكن يهمني كثيرا، لأن ما كان يشغل بالي آنذاك، هو جمال بيرخينيا الفاتن، وكثيرا ما قلت في سري: بيرخينيا هي الفتنة، والفتنة هي بيرخينيا.
الحق أن بيرخينيا لم تكن بالنسبة إلي سوى أرض أحلام دلفت إليها بروحي، ولم تكن هذه الأرض سوى روندا، التي كلما ذكرتها كإسم إلا وتذكرت نجمين: جون سيرل وأبي البقاء الرندي. الأول كصحفي لامع، والثاني كشاعر مهموم.
وصف لسان الدين ابن الخطيب روندا، التي تقع على نهر ينسب إليها، غرب مالقا كمدينة قديمة بها آثار كثيرة فتنتني، بأنها” أم جهات وحصون وشجرة ذات غصون وجناب خصيب”. إنها حقا مدينة خصبة، هادئة، وسعيدة.
أبعدت عني السأم، وأخرجتني من وجوم أتراحي، كانت من أهم القواعد الأندلسية، ومن أهم مدن مملكة غرناطة الإسلامية، وعندما سقطت هذه المدينة بخديعة من القشتاليين سنة 890 هجرية أصبح الطريق ممهدا للاستيلاء على مالقا، التي سقطت سنة 892 هجرية. فلقد “استولى القشتاليون على روندا في جمادى الأولى 890 هجرية ثم استولوا بعد ذلك على سائر الأماكن و الحصون الواقعة في تلك المنطقة. و كان سقوط هذه المدينة الأندلسية ضربة شديدة للمسلمين. و بسقوطها انهارت كل وسائل الدفاع عن منطقة الغربية…”.
ظل وجه بيرخينيا ملتصقا بزجاج الحافلة، عيناها تبدتا لي حزينتان، العينان الأخاذتان الحانيتان. كنت أرى فيهما اليوم الذي غادرت فيه ليلا “تطوان”، بعد أن جمعت في حقيبتي ملابسي الداخلية، بذلتي الزرقاء، وكل الضروريات من بناطيل وقمصان ملونة وأشياء أخرى، وخرجت لألتحق برفاقي بالحافلة للتوجه إلى سبتة، ثم بعد ذلك الوصول إلى مينائها لأخذ الباخرة السريعة، بعد قطع مسافة ليست طويلة أو قصيرة، حيث كنت أرغب في الوصول إليها قبل رفاقي، الذين تركتهم ورائي يجرون حقائبهم ذات الدراجات، حتى رئيسي إبراهيم لم يلحق بي، برغم تعمده الجري بسرعة، لكنني كنت أسرع منه، لأصل قبل الكل إلى الباخرة، وما إن دلفت إليها حتى وجدتني قبالة فتيات “أوكرانيات” حسناوات. حدجتني إحداهن بنظرة فاتنة، وابتسمت، ثم اختفت بغتة وعادت وهي تحمل في يدها منشفة لتنظيف الموائد، ولما انتهت عادت إلى مكانها الذي خرجت منه، من دون أن تبتسم هذه المرة. كان رفاقي ينظرون بتلهف إلى هذه الفتاة الأوكرانية الحسناء، ذات القامة الطويلة والرشيقة، والشعر الأشقر الخفيف المنساب على ظهرها، والملامح اللبنية والمؤخرة البارزة التي اجتذبت نظر سعد، الذي قال لي بلهفة : “ليلة واحدة مع هذه الأوكرانية في السرير، قد تجعل المرء يعيش حياة طويلة. إنها ستبدو كالسمكة في السرير”.
لم أحس بتاتا، بل وحتى رفاقي، بأننا وصلنا إلى ميناء الجزيرة الخضراء. وما إن نزلنا من الباخرة، وقطعنا مسافة ليست طويلة أو قصيرة، وبعد تمحيص الشرطة الإسبانية لجوازات سفرنا المغربية، حتى وجدنا في استقبالنا كارلوس رئيس جمعية صحفيي الأندلس وخافيير وجون وبيرخينيا وإلينا وكارمن، وآخرون لم أعد أذكر أسماءهم، ومر وقت ليس طويلا أو قصيرا في تبادل العناق والقبلات، ثم صعدنا إلى الحافلة التي توجهت بنا إلى روندا. لم أكن أعرف بيرخينيا، وستكون أول مرة أراها في حياتي، فقد شاركت في مؤتمرات عدة، لكنها لم تحضر إلا في هذا المؤتمر، الذي كان موضوعه ” الحق في الوصول إلى المعلومة”، ومؤتمر ” الرياضة والسياحة”.
تبادلنا النظرات، لكننا لم نتبادل القبلات، كما الآخرين، كانت شخصيتها قوية، وساحرة بجمالها، عادية في لباسها، إلا أنها أنيقة المظهر.
طريق روندا وعر، صعب، ذكرني بطريق غراثاليما. لم نتغلب عليه أنا وسعد وجلال إلا بترديد، مبتسمين، مطلع قصيدة أبي البقاء الرندي: ” لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان”… ثم نستمر في الضحك، فينظر إلينا الكل، ويأتي إبراهيم ليشاركنا الضحك، ويضيف: ” هي الأمور كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان”. ولم نتوقف عن ذلك إلا بعد دخول الحافلة إلى روندا.
وبينما أنا أنزل من الحافلة، رمقني نجيب بنظرة حادة، وهو يقول لي: ” لقد أزعجتموني كثيرا، ولم تتركوني أغفو”، فقلت له: ” اذهب إلى داركم، وهناك يمكن لك أن تغفو دون أن يزعجك أحد”، فلم ينبس بالكلام.
كان يعرف مكانتي في الجمعية، ومدى قوتي، والثقة التي يخصني بها رئيسي إبراهيم. كما أنني لم أكترث لكلامه الثقيل، وجسمه الدميم.
أعرف نجيب جيدا. كان يشتغل في صحيفة ورقية، ظل يراسلها لسنوات، ثم، انتقل بعد ذلك للعمل بإحدى الإذاعات المحلية، ولم يلتحق بالجمعية إلا بفضل تملقه وتقربه من إبراهيم، الذي كان يملك قلبا كبيرا. لكنه بدأ يتعارك مع بعض رفاقنا في الجمعية لتفاهته، وأنانيته، وحبه للظهور، ولم يكتشف إبراهيم ذلك إلا مؤخرا، لكنه لم يتخذ في حقه أي إجراء، ولم نعرف ما معنى سكوت إبراهيم على تصرفاته.
أتذكر أنه كان يدس أنفه في كل شيء، حتى في الوقت الذي يكون فيه اجتماع بين الطرفين المغربي والإسباني يخص تطوير علاقتنا الإعلامية وبعض الشؤون التي تتعلق يالجمعيتين، والتي يقتصر فيها الاجتماع على عدد محدود من الصحفيين. كان يريد أن يكون هو الأول، لكنني كنت أقف له بالمرصاد، فلا أدعه يحضر الاجتماع، ليس لأنني أكرهه، وهذا أمر غير مستبعد كليا، ولكن لأن الاتفاق بين الطرفين كان يلزم ذلك الأمر. فلا مجال هنا لحب الظهور أو انتهاز الفرص، أو فرض العضلات… ففي العمل الصحفي لا وجود لفرض العضلات، حيث تكون بوابة المنافسة مشروعة.
وهذا المنع الذي كان يصدر مني أنا تحديدا في حق نجيب كان يجعله ينتهز أي فرصة سانحة للانقضاض علي كنسر، لكنني كنت أردعه بكلامي القاسي، رغم أنني لم أكن قاسيا، فأنا أملك مشاعر إنسانية، وأحب أكثر مما أكره.
في حقيقة الأمر، لم يكن مسموحا في الجمعية أن يدخلها الطفيليون، وكنت أستفهم، وأنا أمشي رافعا رأسي إلى سماء روندا الزرقاء الصافية المفتوحة، بعد نزولي من الحافلة: ” ما الذي زرع في محيطنا هذه المصيبة؟ “… وكثيرا ما لمت إبراهيم على أنه كان السبب في ذلك”.
كان لابد أن يأتي يوم أفكر فيه في اقتلاع هذا الجسم المصيبة، هذا الجسم الدميم، الذي لا أعرف ما يخبئ في رأسه الكدر.
الجسم الذي يحمل الحقد، والخبث، والدسيسة، والنميمة، والوشاية وكل ما يمكن أن يفكر فيه الشيطان.
كان جلال وسعد كلما أبصراني غاضبا، يضحكان، ويقولان لي: ” دع الأمر… لا تضايق نفسك بشأن ذلك الغبي”. فكنت أرفع رأسي، وأتأمل برزانة السماء الزرقاء الصافية، فأشعر بأن أتراحي قد اندثرت دفعة واحدة، كما لو أن يدا إلهية لمست بحنو جبهتي وخدي وعنقي، ثم اختفت إلى الأبد.
الشيء ذاته كان يحدث لي حين أكون برفقة بيرخينيا.
شيء ما له علاقة بالشعر، والعذوبة، والأناقة، والانسجام، والتكامل، وفي الوقت عينه القوة والشجاعة والقلب العاشق. كنت أحس بروحي تذوب في روحها، وجسمي يغرق في جسمها، كما لو أننا توأمين، أو دلفينين يلعبان ويداعبان بعضهما البعض في عرض البحر.
كان لابد أن نتوجه إلى فندق ” مايسطرنثا “، وهو الفندق الذي قادنا إليه كارلوس، بعد نزولنا من الحافلة. كنت أدرك أنني لن أمكث سوى أربعة أيام في روندا، وهذه فعلا هي المدة التي يفرضها المؤتمر، فمؤتمراتنا لا يمكن أن تتجاوز أربعة أيام. وكان لابد أن لا أضيع الوقت كثيرا، كان الوقت كالسيف…
وأربعة أيام في روندا ليست كافية للاستدلال على كل فضاءاتها وآثارها الزاخرة العتيقة. ولم أحدد بعد مشاعري إزاء بيرخينيا، مشاعري المتدفقة كاليم، مشاعري المأسورة في أعماقي، التي أحتفظ بها لنفسي حتى الآن، ولا أعرف لماذا بالضبط…
وفي هذا الوقت فكرت في أن أهدي وردة حمراء لبيرخينيا، ثم تراجعت بغتة عن هذه الفكرة التي استقرت في رأسي دون رغبة مني، وقلت في سري: وردة واحدة غير كافية، وربما تصورت أنني أنثر على قدميها الحافيتين ورودا حمراء لحظة كانت تدلف إلى الفندق… وسرعان ما عدت إلى رشدي، لأجد نفسي واقفا في المصعد أمام بيرخينيا، وفي غرفتين متجاورتين.
في المصعد، قلت لها: ” إسمك جميل حقا، وأنت جميلة جدا”. فابتسمت، وقالت: “شكرا… إسمي بالفرنسية ينطقونه (بيرجنين)”. قلت: “أعرف”. ثم ساد صمت كالليل، وفي الوقت التي دلفت إلى غرفتي بعد أن فتحت الباب، كانت هي تدخل إلى غرفتها. لوحت لي بيدها اليمنى الرقيقة، ثم قفلت عليها الباب.
لم يكن هناك متسع من الوقت لأستبدل ملابسي، فالحافلة تنتظر قرب باب الفندق، حيث حان وقت الغذاء.
بيرخينيا كانت أسرع مني في الصعود إلى الحافلة التي توجهت بنا إلى مطعم، غاب عني أن أسجل إسمه، كما كنت أفعل خلال زيارتي لمطاعم وحانات إشبيلية وغرناطة وغراثاليما وسبتة. دخل الكل تباعا، وفي باب المطعم، قال لي إبراهيم: ” أعتقد أن كل الرفاق أخذوا البرنامج”، قلت، برصانة: ” أجل، لا أحد بقي بدونه، فهؤلاء الإسبان يتقنون عملهم، إنهم جد منظمون”، فابتسم، وذهب ليجلس مع كارلوس وإلينا وآخرين، فيما جلست أنا مع بيرخينيا وكارمن، و انضاف إلينا سعد وجلال ونجيب، الذي ما إن رآني جالسا قرب بيرخينيا حتى بدا على ملامحه انزعاج غريب، لم أكن أعرف سببه. لم أهتم لأمره، فأنا أعرف رعونته.
كان المطعم خاليا من الزبناء الإسبان أو السياح الأجانب، وكان صاحب المطعم خوان سمينا، بيد أن سمنته لم تعرقل حركته ونادلة نحيفة، لم أعرف إسمها ، لكنها متثاقلة في تقديم الطعام.
كانت الوجبة السمكية شهية.
بعد وجبة الطعام رغبت في تدخين سيجارة دافيدوف، فخرجت إلى ساحة قرب المطعم، وشرعت في التدخين رويدا، تبعتني بيرخينيا وأشعلت سيجارة مارلبورو وشرعت في التدخين على مهل. رمقتني بنظرة باسمة، وقالت لي: “أراك حزينا”، قلت: ” لا… لست كذلك… إنني مرهق من متاعب السفر”. قالت: ” تصور أنني لا أعرف إسمك حتى الآن”، قلت: “يحيى”. أعجبت بيرخينيا بإسمي كما أعجبت أنا باسمها، وذكرت أن الوضع في إسبانيا لا يسر، فالأزمة الاقتصادية أثرت كثيرا على الأوضاع الاجتماعية والمادية للإسبان، وأشارت إلى أن لا أحد اليوم يعرف متى سننتهي من ذلك، فالكثير من الإسبان باعوا ممتلكاتهم لأجل الاستمرار في العيش، ولم يعد ممكنا اليوم العيش في رفاه كما كان الأمر في السابق. وسألتها عن صاحب المطعم خوسي الذي يشتغل بنفسه، فقالت: ” لا تستغرب يايحيى… فالأوضاع تزداد سوءا يوما بعد يوم”. قلت: ” إننا في المغرب لم نشعر أبدا بالأزمة، لأننا نعيشها كل يوم… ولهذا لا أحد يتكلم عنها، فهي كالشمس التي تشرق علينا كل صباح، حيث اعتدنا الـتأقلم معها واحتمال حرارتها”. وفي هذه اللحظة خرج الكل من المطعم، ورمقني نجيب بنظرة ازدراء، خاصة عندما رآني مع بيرخينيا، فقلت في سري متسائلا: “هل أكلت الغيرة قلبه؟”.
لم أحس وأنا داخل الحافلة بأي شعور في غضون العودة إلى الفندق كما لو أنني تحولت إلى تمثال. لكن ابتسامة بيرخينيا الجميلة لم تفارق مخيلتي، مع أنها كانت قريبة مني، كانت تجلس مع كارمن، صديقتها.
كارمن صحفية تشتغل في إذاعة محلية بالجزيرة الخضراء، لم تكن جميلة مثل بيرخينيا، إلا أن ملامحها كانت مقبولة إلى حدما، كانت تترك شعرها القصير البني منسدلا على جبينها، لكن ابتسامتها ساحرة، وكانت تتكلم كثيرا خلافا لبيرخينيا التي كان جمالها في ابتسامتها، ووجهها، وفي صمتها الغريب، المؤثر، والملغز. وكان شعرها الأشقر وعطرها يسحر الكل. في ذلك الوقت الذي نظرت إليهما كانا يضحكان، و إلى حد الآن أجهل حقيقة هذا الضحك.
أعرف أسرار علاقة كارمن بسعد.
كان تعرف عليها في أول مؤتمر للجمعية ب”مرتيل”، وتعاظم هذا الحب بينهما في غرناطة وقرطبة، وفاس، ولكنه تمزق في إشبيلية.
عرفت من سعد أن كارمن اكتشفت حقيقة زواجه من مغربية. انزعجت. و طلبت استئصال تلك العلاقة التي استمرت لسنوات، ولو أن الكل كان يعرف أن سعد كان يضاجع كارمن باستمرار، إلا أنهم كانوا يغضون الطرف عن ذلك، وكان كارلوس يداعب كارمن أحيانا بهذه العبارة: ” ألم تشبعي بعد أيتها العاهرة”، فكانت تبتسم، وهو ما كان يجعل كارلوس يرد عليها بابتسامة أقوى، وكانت ابتسامة كارلوس جميلة.
وبعد أن حكى لي سعد تفاصيل قصته مع كارمن، التي لا يمكن نشرها، قال لي: “لا أحب أن يعرف أحد ذلك”. ووعدته أنني لن أتكلم مع أحد في الموضوع.
وصلت الحافلة إلى الفندق. عقارب الساعة تشير إلى الخامسة مساء، ولم يعد يفصلنا عن افتتاح المؤتمر إلا ساعة فقط. كان لابد أن آخذ حماما ساخنا بعد ولوجي إلى غرفة الفندق، ولما انتهيت، تأملت وجهي مليا في المرآة.
كان احمرار ما يبرز واضحا في صدغي، كنت حليق الوجه، لكن بعض الشعيرات بدأت تنبت في وجهي على عجل، لهذا لم تكن هناك مدعاة لأحلقه، حيث قمت بهذه المهمة في بيتي ب “تطوان”.
كنت دائما منذ أن نبتت لي أول شعرة في وجهي حريصا على الحلاقة، التي ألفتها باستمرار كما يفعل موظفو الأبناك. تمددت على السرير، ورحت أتأمل في فضاء الغرفة.
لم تكن تحوي سوى طاولة وضعت عليها مجلات تعرف بمدينة ” روندا”، قلم رصاص، أوراق بيضاء، لوحتين تبرزان منظرا جميلا لطبيعة روندا، تلفاز، وهاتف. سبق لي أن وضعت ملابسي برمتها داخل خزانة جميلة ونظيفة، الأمر الذي وفر علي مضيعة الوقت. عندما نظرت إلى ساعتي، كانت عقاربها تشير إلى الخامسة والنصف. ارتديت بذلتي الزرقاء، اخترت لها ربطة عنق زرقاء أيضا، ثم لم أحب أن أشعل التلفاز. لا أريد الآن سماع أي خبر.
أعرف أن القنوات الفضائية كانت تبث صورا لمشاهد الثورة الليبية وغطرسة القائد القذافي الذي تمادي في قتل الثوار على أيد عصابته، وتصدى له هؤلاء بقوة، ولم يبق على استسلامه سوى أيام قليلة. فضلت أن أفتح نافذة الغرفة التي تطل على الشارع. كان الشارع هادئا، ليس به حركة كبيرة. كان بعض اليابانيين يسيرون في صف طويل واحد. شيخ إسباني يمشي بصعوبة، وفتيات إسبانيات جميلات يقفن أمام دكان لبيع الأشياء المتنوعة، وعلى بعد ليس كبير جدا، توجد حلبة لمصارعة الثيران، ينتصب في مدخلها تمثال لثور ضخم، يبرز فحولته.
وأنا أفتح باب الغرفة، لمحت بيرخينيا تفتح هي الأخرى باب غرفتها. ابتسمت. قلت لها: ” ابتسامتك متلألئة”، قالت بإسبانية وبلسان قسيم:” بذلتك جميلة”، فقلت: ” أنت الجميلة…وروحك الأكثر جمالا”. وبحركة دبلوماسية، لم أعتد عليها ولا أحبها قطعا، قلت لها برقة: ” تفضلي يا آنسة”. كنت راغبا في تقبيلها، ولا أعرف على وجه التحديد لماذا فكرت بالأمر. قد يكون سحرها هو الذي دفعني لأتخيل ذلك، أو قد يكون عطرها الذي جعلني أحلق كطائر في سماء زرقاء.
كانت قاعة المؤتمر قريبة من الفندق. عقارب الساعة تشير إلى السادسة. الكل يجتمع داخل القاعة. جلست قرب بيرخينيا. تكلم كارلوس، ثم أعطى الكلمة لإبراهيم، وتكلم القنصل وممثل بلدية روندا. كان موضوع “الحق في الوصول إلى المعلومة” قد حظي باهتمام الكل، فهو موضوع الساعة، و كنت أتساءل عن السبب في تسطير قوانين، وجعلها حبرا على ورق، فلا شيء يتم تفعيله، وقلت في سري: “إن هناك دائما جهات حفاظا على مصالحها، وتحديدا، أسرارها، تخفي المعلومات عن الصحفيين”. بيد أن هذا المؤتمر سيفجر أشياء هامة جدا، وللكل الحق في التعبير عن الحقائق التي يعرفها أو يعتقد أنه يعرفها. وبالفعل مرت أربعة أيام استوفى فيها الصحفيون كل ما يتعلق بتفاصيل الموضوع، وقدموا اقتراحات وتوصيات هامة.
أحسست بحرارة تخترق جسمي، وأنا داخل القاعة. خيل إلي أن الشمس خرمت جدران القاعة وفتحت ذراعيها لتحضنني، وأنا بدوري حضنتها، ومن دون أن أشعر حضنت بيرخينيا، فلم يبد عليها أي انزعاج وتركت نفسها لي. بيد أن عيون الآخرين لم ترحمنا، خاصة عين نجيب، حيث رمقني بنظرة حادة وجلفة دون أن ينبس ببنت شفة.
سعد وجلال ضحكا، كارمن لم تقل شيئا، كانت تجلس بنفس الصف، لكن إلينا، لم يعجبها الحال، وعلمت من إبراهيم فيما بعد أنها أهانت بيرخينيا وكلمتها بطريقة غير لائقة، ووبختها على استسلامها لي بسهولة. كارلوس لم يقل شيئا، ابتسم كالعادة، وكانت ابتسامته رائعة. كارلوس كان يملك قلبا كبيرا مثله مثل إبراهيم. جون ابتسم، ولم يقل شيئا، لكنه لوح لي بعكازه من بعيد، لكن من جون هذا؟
إنه صحفي… شيخ. لكنه يحمل قلب طفل.
تعرفت عليه في مؤتمر بغرناطة. حضر كل المؤتمرات، وكانت صداقتي معه قوية. كان يحب المغرب والمغاربة، ويحب كل رفاق الجمعية. لكنه مات، وحزنت، وكل رفاق الجمعيتين تأثروا لموته، وكان مؤتمر “تطوان” الأخير تكريما له.
لم يكن يفارق عكازه، وعكازه لم يكن يفارقه، وقد عرفني على بعض آثار روندا، كما عرفتني بيرخينيا على جزئها الآخر، وهو الذي قادني لألمس بيدي صورة أبي البقاء الرندي مرسومة على أحد جدران أرض الأحلام.
بعد خروجنا من قاعة المؤتمر كانت الحافلة واقفة تنتظرنا للرواح إلى المطعم لتناول وجبة العشاء. كانت الأكلة سمكية أيضا، لكنها مشهية. أكلت حتى الامتلاء، وشربت “كروز كامبو”، نوع من البيرة المشهورة في إسبانيا، يزداد مذاقها استحسانا كلما شربت باردة، وبما أنه راقني مذاقها، طلبت ثانية وثالثة ورابعة وخامسة، وبقيت على هذه الحال إلى أن وصلت إلى البيرة العاشرة، فأحسست بنفسي أطير على جناح يمامة، و لما خرجت وجدت أمامي نجيب، فشتمته، وقلت له: ” يالك من لئيم”، فلم ينبس ببنت شفة، ولو كان نطق بكلمة واحدة تلك الليلة لكنت لطمته، وأحسست أن لدي رغبة في التبول، ولولا خشيتي من البوليس، لخلعت سروالي وأخرجت شيئي وتبولت على نجيب. بيد أنه لم يكن أمامي إلا أن أعود إلى المطعم، وأدخل إلى الحمام وأفرغ ما في جعبتي دفعة واحدة.
كان البول ينزل أبيضا، فأحسست بلذة، وبراحة، هي نفس اللذة التي كنت أحس بها عندما أضاجع عاهرة، وأنا سكران.
الحافلة على وشك الانطلاق للعودة إلى الفندق. الآن، يبدأ زمن الحرية، يمكن لأي واحد منا أن يفعل ما يشاء. كانت لدي رغبه في النوم، لكن عنادي جعلني أهبط إلى صالون الفندق، ومع أنه ممنوع التدخين، كان المهووسين بالتدخين يخرجون إلى باب الفندق.
كانت بيرخينيا واقفة مع كارلوس وإلينا وكارمن، وكان إبراهيم يجلس مع جون بصالون الفندق، فيما نجيب وسعد وجلال يتكلمون في موضوعي. كان نجيب غاضبا، وأعرف أنه لن يفوت الفرصة للانقضاض علي لينتقم مني، فأنا قد جعلته مثل دجاجة مبلولة بالماء.
كانت بيرخينيا مثل وردة مغسولة بالندى تقف شامخة كالجبل، وكانت عيناها الأخاذتان الحانيتان تلمعان كنجمتين في ليل روندا الساحر. لم أشعر بالبرد، وكان أثر ” كروز كامبو” قد بدأ يندثر تدريجيا.
اقتربت مني بيرخينيا، وهمست في أذني اليمنى: ” يمكنني غدا أن أعرفك على أشياء جميلة في روندا بعد انتهاء مداخلات المؤتمر صباحا”، قلت لها بكل رقة: “شكرا…سأكون ممتنا لك”.
راحت بيرخينيا لتنام، وبقيت أنا واقفا مع كارلوس وإلينا وكارمن. أشعلت سيجارة “مور”. كنت اشتريتها من دكان للتبغ واقع في ممر تجاري، توجد به أيضا بعض المقاهي، وشرعت في التدخين على مهل، ورحت أتأمل السماء المتشحة بالنجوم، التي أسرتني بسحرها كما أسرتني بيرخينيا بجمالها.
في الصباح، بعد الفطور، دعتني بيرخينيا في جولة قصيرة لزيارة بعض المآثر التاريخية لأرض الأحلام. والحق أن ما كان يهمني من هذه الزيارة هو أن أكون قريبا من بيرخينيا، وأن أشم رائحة عطرها، ألامس بيدي اليمنى شعرها الأشقر الناعم، وأتأمل نهديها البضين، وأنظر إلى عينيها الأخاذتين الحانيتين، وأقبل شفتيها المستطابتين كمذاق العسل.
الجسر الجديد كان أول محطة في هذه الزيارة.
قالت بيرخينيا، متحولة من صحفية إلى مرشدة سياحية: “إنه يايحيى أحد أكبر الجسور في أرض الأحلام، يصل بين جانبي وادي ” تاخو”، وهو يفصل مدينة روندا إلى نصفين. ويبلغ ارتفاع الجسر 98 مترا ويحتوي على قوس في منتصفه وتوجد أيضا غرفة تحت الجسر تم تحويلها إلى فندق وبار”، وأشرت بأصبعي إلى متحف صغير، فقالت: ” في حقيقة الأمر، كان هناك سجن تحول إلى متحف صغير”.
أمسكت بحرارة على يدي اليمنى، وقالت: ” الآن، سأريك شيئا مهما جدا بالنسبة إليك”، فأحسست برعدة في جسدي برمته، وحاولت تقبيلها إلا أنها تراجعت بخطوة إلى الوراء، ثم لم تنزعج، ولكن نظراتها كانت ملغزة، وملتبسة.
وصلنا إلى الحمامات العربية، وأدركت من كلام بيرخينيا أن هذه الحمامات ” لازالت قائمة بكافة أجزائها حتى اليوم على الرغم من أنها لا تستخدم لنفس الغرض الذي شيدت من أجله، وتمثل أحد الشواهد على فن العمارة الإسلامية لتلك الفترة من العصور الوسطى في بلاد الأندلس “.
وقالت بيرخينيا إنه بوسع” الزوار رؤية البرج حيث كان يقوم حمار بتشغيل ذراع تدوير من أجل تزويد الحمامات بالماء البارد وبعد ذلك يتم تسخينه وتوزيعه على الغرف الثلاثة في الحمام: الغرفة الساخنة حيث يتم التخلص من الملوثات في الجسم عن طريق التعرق، والغرفة الدافئة المخصصة للحصول على التدليك والجلوس في الماء الدافئ وأخيرا الغرفة الباردة للاسترخاء في الجو البارد”.
خلال وصولنا إلى أسوار العصور الوسطى، قلت في سري متسائلا:” هل تضايقت بيرخينيا من محاولة تقبيلي لها؟” لكنني عدلت عن التفكير في الأمر.
لم تنظر إلي بيرخينيا، لكنها أتمت مهمتها على أحسن وجه، وقالت ” تتخلل هذه الأسوار عدة بوابات وأقواس مبنية على الطراز الإسلامي، وقد بنيت أبراج وأسوار حجرية منيعة تحيط بالمدينة القديمة ويستغرق التجوال حولها ساعة بالتقريب، لكنه نظرا لضيق الوقت لا يمكننا الإحاطة بها جميعا”، وأضافت برصانة: ” إن أكثر الأسوار تميزا هي الأجزاء الموجودة في منطقة ( الموكابار) في حي سان فرانسيسكو وكاليه غوليتا وبالقرب من المطاحن الأثرية المهدمة في وادي تاخو حيث كان يطحن الطحين”، وفي هذا الوقت سكتت عن الكلام…
كنت أتوق جدا لرؤية نصب أبي البقاء الرندي الشاعر الأندلسي الشهير إبن هذه المدينة، ولما سألت بيرخينيا عنه، قالت: ” جون يعرف مكانه، وسيدلك عليه”.
وقلت في سري: ” ليس هناك أحسن من جون ليدلني على هذا النصب”.