عطلة مابعد الولادة

ريم نجمي

منذ حوالي سنة وأنا في عطلة رعاية الطفل أو عطلة ما بعد الولادة. وهي فترة زمنية مدفوعة الأجر بشكل جزئي تمنحها الدولة الألمانية للأم أو للأب في حال قرر أحدهما أن يتوقف عن العمل ويتفرغ لرعاية الرضيع لمدة سنة.

هذه الفترة اعتبرها استثنائية جدا وخاصة جدا. هدية سماوية ليس فقط للاستمتاع بلحظات لن تتكرر مع ملاك صغير وهش وإنما لحظة تأمل طويلة ووقفة لالتقاط الأنفاس من دوامة العمل والروتين اليومي. فترة ترافق فيها الحياة من بدايتها : أول ابتسامة أول حرف أول خطوة …إنها أيضا احتفاء بالأشياء الصغيرة والبسيطة التي لا نعيرها اهتماما في زحمة المواعيد والالتزامات اليومية. أمشي كثيرا ولساعات في شوارع برلين، أكتشف المدينة وتفاصيلها الغنية، أنتقل من عالم لعالم آخر ، من حي أرستقراطي لحي شبابي صاخب، أمر على النهر ونتبادل الأسرار والابتسامات، أسلم على التماثيل الشاردة أو المفعمة بالحياة. ألتقط صورا لمشاهد هاربة و أجلس في الحدائق العمومية كما يجلس الغرباء. أحيانا أضع رضيعي في الحمالة وأتقمص دور سائحة تكتشف المدينة للمرة الأولى وتزور المتاحف التي لم تسنح الفرصة بزيارتها.

جيراني الذين كانوا مجرد وجوه في المصعد، صرت أعرفهم وأعرف أسماءهم ، وحكاياتهم، جارتي الفرنسية الصحفية المتقاعدة وجاري الطباخ الكرواتي والسيد تيزن عمدة المجمع السكني وجاري الأمريكي الذي يتحدث اللغة العربية الفصحى.. نجلس في آخر اليوم في حديقة البيت، نشرب القهوة أو أطبخ لهم طجينا مغربيا وأتأمل أصوات الإعجاب باللقمة الأولى.

ألتقي بصديقاتي الأمهات الجديدات ونحكي القصص نفسها ونشتكي بأصوات وتنويعات مختلفة عن قلة النوم وأسنان الحليب والصدر الملتهب والوزن الزائد ثم نضحك كثيرا ونحن نطلب كأس لاتيه ماكياتو خال من الكوفيين مصحوبا بكعكة من الحجم الكبير، مبررات ذلك بكوننا مرضعات.

ثم ننطلق في أحاديث لا تنتهي…نتحدث عن الموضة وثيابنا ملطخة ببقايا الحليب الذي تجشأه الطفل. نتحدث عن منتجات جديدة للرضع، نقيم هذا المرهم أو تلك اللعبة ونتحول إلى خبيرات في السوق قبل أن ننتقل إلى فقرة النقد الفني ونحن نتكلم عن مسلسلات التلفزيون وأخبار النجوم…نتكلم دون تجاوز الخطوط الحمراء: المحامية لا تحب الحديث عن القوانين والطبيبة لا تحب الحديث عن الأمراض والمعلمة لا تود الحديث عن مشاكل التعليم ومستوى المدارس في برلين، وأنا أدير ظهري للأخبار والنقاشات السياسية الكبرى. ندخل حصص رياضة ما بعد الولادة لإعادة تأهيل أجساد الأمهات وترميمها من آثار الولادة. كما نحضر حصص ألعاب الرضع، حيث نتحول إلى طفلات ونغني أناشيد الأطفال ونحن نحرك أيدينا بطريقة راقصة. نجر عربات الأطفال في أزقة جانبية ويتضايق منا أحد المارة من كبار السن:” أمهات مزعجات” فنضحك فاسحات له الطريق.

وقد يوقفنا أحد المارة لرؤية الرضع عن قرب، فيأخذ ابتسامة خالية من الأسنان ينير بها بقية يومه. تتحول الحياة إلى حفلة من الأطفال والألوان ونحن نمسك منظارا لنطل على أنفسنا وعلى من نحب بهدوء.

أعيش هذه اللحظة كاملة بجمالها وتعبها وتقلباتها المزاجية، بتجاعيدها وهالاتها السوداء، بمشاعرها المتضاربة وبالكثير الكثير من الحب.

أتواصل قليلا ونادرا مع الأصدقاء في لعبة تخف غير مقصودة. وهنا أعتذر لصديقاتي وأصدقائي ولزميلاتي وزملائي من الصحفيين الذين قصدوني في رقم أو في تصريح عن شأن ألماني أو ثقافي أو حوار أو مقال وتأخرت عن الرد أو اعتذرت. كما أعتذر هنا بصفة خاصة للمحلل السياسي الذي يرسل لي فيديوهاته التحليلية بعد منتصف الليل، ويستنكر عدم تلقي رأي في محتوى الفيديو. آسفة أنا في عالم آخر.

Loading...