نهاية رواية “روندا أرض الأحلام”

يوسف خليل السباعي

منديل فاطم

لا أعرف حتى الآن السبب الذي جعل بيرخينيا لا تحضر معنا في الصباح قراءة التوصيات الختامية للمؤتمر بقاعة الفندق. ولم أرغب في أن أسأل كارمن عن الأمر. قرأت التوصيات بالعربية والإسبانية، وسلمت شهادات المشاركة.

كنت أرغب في أن أتسلم شهادتي من يد بيرخينيا الرفيقة، لكن غيابها كان محطما لقلبي، ولم أكن أتوقع أن تختفي بيرخينيا من حياتي بتلك السرعة الهائلة.

لم أتكلم مع نجيب الذي كان ملتصقا بجسد إلينا. كانا يعرفان سر اختفاء بيرخينيا، وبما أنني لم أحبهما قط، فلم أعطهما اهتماما. كانا يرمقانني بنظرات غريبة وخسيسة… ويضحكان. قلت في سري: ” إنهما لا يستحقان مني أي رد…”، تجاهلتهما، وخرجت. خرج الكل من قاعة الفندق، التي بقيت فارغة.

كان لابد أن تتوجه الحافلة إلى مطعم إسباني في الطريق لتناول الغذاء، ثم نودع رفاقنا الصحفيين الإسبان والعودة إلى ديارنا. كان المطعم نظيفا، وواسعا. كان كارلوس قد اتصل والحافلة تخرم بساط الطريق بصاحب المطعم حتى يحضر وجبة الغذاء للكل. عندما دخلنا إلى المطعم تراءت لي مائدة كبيرة مغلفة بغطاء أبيض وممتلئة بكؤوس فارغة وغراريف حاوية للبيرة وسكاكين وشوكات للأكل محاطة بكراسي خشبية بنية… لأول مرة سيجتمع الكل على مائدة واحدة. وبعد برهة، جاء الندل يحملون صحونا مملوءة بالسمك المقلي، باللحم البقري، وأشياء أخرى، ثم راحوا إلى المطبخ وعادوا حاملين زجاجات نبيذ أحمر، وبما أنني لا أحب شرب النبيذ الأحمر اكتفيت بالبيرة. أكل، صخب، كلام غير مفهوم، ثرثرة… كل هذا كان يجعلني صامتا، لكنني لم أتوقف عن الأكل، لأنني كنت جائعا، ولم آكل في الصباح جيدا.

كان صمتي، يجعلني أفكر في بيرخينيا. ولم تكن لدي القدرة لسؤال أحد عن اختفائها. كنت أحس بها جالسة بالقرب منى في أي مكان أتحرك فيه… على مائدة الطعام، في الحافلة، أو في الباخرة.
كان وجه بيرخينيا محفورا على الأشجار… على الجبال…
كان وجه بيرخينيا مرسوما على جدران أرض الأحلام مثل زهرة…
ظل ساكنا في روحي… وكان جرحي غائرا…
فكيف الوصول إليك يا بيرخينيا الجميلة؟ وكيف اللحاق بك؟ وهل أستطيع أن أعيش من دونك؟
أي طعم للحياة من دونك يا بيرخينيا…

عدت من أرض الأحلام مفتقرا لوجه بيرخينيا الذي اختفى بغتة. ولم أرها إلا حين جاءت إلى تطوان لتغادرها بعد أربعة أيام، ولم تتح لي الفرصة خلال أربعة أيام قضتها معنا في تطوان لأسألها عن سبب اختفائها. قالت لي فقط إنني تركت لك رسالة مقتضبة مع كارمن ستسلمها لك عند مغادرتنا لهذه المدينة السعيدة.
أتذكر الآن وجه بيرخينيا ملتصقا بزجاج الحافلة. كانت عيناها حزينتان، العينان الأخاذتان الحانيتان. وتذكرت أيضا الرسالة التي سلمتها لي كارمن قبل أن تصعد إلى الحافلة.

رسالة بيرخينيا القصيرة:
” عزيزي يحيى
أتمنى لك نهارا سعيدا…
أرجو ألا تتسرع في الحكم علي. لم أختفي… كنت أحب أن أودعك قبل رحيلي. لكن صديقتي إيناس كانت تنتظرني في خيريس لمسألة هامة. إنني أبحث عن عمل جديد في خيريس. لكن إلى حد الآن لم أعثر على شيء، فالأزمة خانقة.
لن أدخل في تفاصيل أخرى، نلتقي في خيريس…
قبلاتي ، بيرخينيا”.

الأيام الأربعة التي قضتها معنا بيرخينيا، وكل الصحفيين، كانت مشرقة، ورائعة، لكنها كانت منهكة، ومتعبة، أيضا. عشنا تكريم الراحل جون.

كان الحزن مرتسما على وجوه الكل، وتكريم فريق المغرب التطواني الفائز بالبطولة الاحترافية بحضور رئيسه عبد المالك أبرون… عشنا لحظات فرح… أربعة أيام امتزج فيها الفرح بالحزن وقدمت فيها عروض المؤتمر، وعروض غناء ورقص… وعناق… ثم تفرق الكل.الحق أقول لكم إنني كنت محتاجا للراح، وللراحة… لم يكن وجه بيرخينيا غائبا عني. لقد سكنت جسدي كجنية البحر.

ها هو بحر “المضيق” الهادئ يناديني. نزلت إلى الشاطئ، كان خاليا، وموجاته الرفيقة تلامس رجلي الحافيتين برقة، تذكرني بيدي بيرخينيا الأسيلتين. أحسست بالجوع، فتناولت وجبة سمكية في مطعم “أمواج”، ثم صعدت إلى سطيحة المقهى، التي تطل على الكورنيش. كان ممتلئا ببعض المعتادين على التجول به في العشية، لم أعط اهتماما لذلك، ونظرت بإمعان إلى البحر، الذي لا يزال هادئا، والجبل المطل على ميناء المضيق، وإلى السماء الزرقاء المغلفة بغيوم صغيرة.

نسيت نفسي جالسا في مقهى ” أمواج”. كنت قد احتسيت كأسين من القهوة، ودخنت سجائر دافيدوف، ومن فرط النظر أحسست بإعياء، فقررت الخروج والتجول في الكورنيش، وعندما تعبت من المشي، دخلت إلى صالون فندق كولدن بيتش . كان الصالون ممتلئا ببعض الزبائن الذين اعتادوا على الشراب هناك. شربت البيرة فقط، وأفرطت في الشرب. كان النادل بشعره الأسود اللامع ووجهه المدور يضع على الكونطوار، والبسمة لا تبرح ذلك الوجه، صحونا ممتلئة باللحم المفروم، وسمك بيكروني وأشياء أخرى. في زاوية من الصالون، كان يجلس رئيس الجوق الموسيقي ببذلته الزرقاء، وكان ينظر إلى ناحية الباب، قد يخيل إلى من لا يعرفه، أنه يراقب زبائن الصالون، لكنه كان ينتظر وصول المغنية ندى.

ها هي ندى داخلة إلى الصالون. ترتدي فستانا أسودا جميلا، بقامة رشيقة وشعر أسود طويل. كانت ابتسامتها حلوة…فاتنة… وصوتها بهي، ورائع، الأمر الذي جعل أصحاب الفندق يحرصون على بقائها. غنت ندى كل الأغاني الجميلة، ولم تتعب، ومن حين لآخر، كانت تنظر باتجاهي، فأشعر بإحساس غريب، لكنني كنت أستحسنها، وأحب صوتها، وذلك جعلني أعود باستمرار إلى الفندق، لأستمتع بصوتها الرائع.

عدت إلى كأسي، لأغرق في لجة تفكير. أحسست بأن قلبي يدق، ويداي باردتان، فأترعت من كأسي، ثم رحت أتأمل لون مائه الذهبي، فخيل إلي أن نارا تشتعل في جسدي كله، نار ليست كأي نار، قد تكون نار الحب. وتذكرت ليلة التقيت بفاطم في علبة ليلية بالمضيق. عندما رأيتها، وأنا سكران، خيل إلي أنني أمام بيرخينيا. فقلت في سري: ” هاهي جنية البحر تعود مجددا”. حاولت أن أستبعد هذه الفكرة، لكنني عندما اقتربت منها، قلت: ” ياربي… يخلق من الشبه أربعين”. أصابتني حيرة… واقتربت منها أكثر فأكثر. كانت بنت ليل جميلة، واقفة لوحدها بالقرب من الكونطوار. كان شعرها كستنائيا، عيناها واسعتان جميلتان، وبهما حزن غامض، لكنها مع ذلك كانت تبتسم، وأنفها دقيق، وفمها كالدر. لم تكن سمينة، ولا رقيقة، لكنها تنعم بنهدين عامرين، مشهيين، ومؤخرة فاتنة. بابتسامة حلوة، قلت لها سائلا: ” ما اسمك؟”، ردت بابتسامة أحلى، ثم رمقتني بنظرة متأججة، وقالت “فاطم”. فقلت لها “إسمك جميل، لكنه نادر وغريب، يا بيرخينيا”. قالت لي: “ماذا تقول يا صاحبي”.

أحسست بأنني ارتكبت خطأ، ولكنني هكذا تصورتها، ولم أصلح هذا الخطأ إلا بدعوتها لشرب أي شيء ترغب فيه، فطلبت “ريدبول”، فأمسكتها من يدها اليمنى الدافئة، باحثا عن مكان شاغر في العلبة، بعيدا عن أعين المتلصصين والسكارى… لم أبالي بالراقصين داخل الحلبة، ولا بأي أحد. كانت الموسيقى صاخبة. انتقيت مكانا شاغرا، جلسنا فيه وتبادلنا القبلات. كانت لقبلتها طعم العسل في لساني وشفتي… ولم أشبع دون أن أبالي بالآخرين.

استمررت في مداعبتها وتقبيلها، لم ترفض، بل أعجبتها اللعبة. كانت فاطم تضع ماكياجا ثقيلا. بيد أنها كانت تضعه بإتقان، وبما أنني كنت سكرانا، لم أسألها عن سبب وضعها لكل هذا الماكياج. كنت أدرك أن فاطم كانت ترغب في أن تقضي معي الليلة ليس حبا في أنا، وإنما في نقودي. وهذا حقها. في سرية تامة، ومن غير أن يسمعنا أحد، تفاهمنا على المبلغ النقدي، لكن تلك الليلة لم يقدر لي أن أعاشر فاطم، لكون غرف الفندق كانت عامرة. لم تنبس فاطم بالكلام. أعطيتها بعض النقود، وطلبت منها رقم هاتفها المحمول، فقبلت للتو، وراحت إلى ناحية الكونطوار، تنتظر مثول زبون آخر، وبالفعل تحقق لها ما كانت ترغب فيه.

وعندما اقتربت أنا من الكونطوار لطلب كأس فودكا، كانت فاطم ترقص وتحرك مؤخرتها لإغراء الزبون، ثم خرجت معه، لكنها لم تنس قبل ذلك أن تودعني مرسلة لي بوداعة قبلة بيدها اليمنى وهي تبتسم بحلاوة.

فضلت تلك الليلة أن أعود إلى منزلي. وظللت أفكر فيها.
كان لابد أن أعود غدا في الليل إلى المضيق.

ها أنا الآن في حانة ومطعم “شيكو”، أحتسي البيرة، وآكل سمكا مقليا. لم أهتم بالزبائن، وظللت أفكر في فاطم. اتصلت بها على رقم هاتفها المحمول، وطلبت منها الحضور، فلم تتأخر، وحينما دخلت…طلبت كأس فودكا… لم تحب فاطم أن تبق معي في حانة ومطعم ” شيكو”، وبرقة، قالت لي: ” هل تسمح لي بطلب؟”، قلت لها: “بكل حب”. علمت أنها ترغب في أن تذهب إلى فندق يقع بجوار ” شيكو”، يحوي صالون، حانة ومطعم، أيضا. وبما أنني كنت ناعما معها ، حيث كانت تذكرني بجمال بيرخينيا، طاوعتها. لكننا عندما خرجنا إلى الشارع، طلبت منها أن ترافقني إلى مسبح فندق ” كولدن بيتش”، للاستمتاع بسهرة غنائية ليلية يحييها الفندق، وتكرر ذلك مرتين – ليلتين-، لكن في المرات الأخرى كانت فاطم تصر على الذهاب إلى ذلك الفندق الأول، ولم يكن بمقدوري الفرار. كان لا بد أن أرضخ لرغبتها، كما رضخت هي لرغباتي، وحماقاتي.

كان جسد فاطم ملكا لي لشهرين. أعبر جسدها كل ليلة، وتعبر جسدي كل ليلة. حفظت كل جزء في جسدها، وهي كذلك، وكنت أقبلها بحرارة، وتقبلني هي بشوق كأننا عاشقان. لم أعاملها كبنت ليل، وهي كانت تعاملني كبعلها، لكنني كنت أعرف أن يوما ما ستختفي من حياتي، كما اختفت بيرخينيا، ولم أفكر أبدا في هذا اليوم.

كانت فاطم تحكي لي عن كل الرجال الذين عبروا جسدها.

واحد، قصير القامة تجد صعوبة في أن تمسك به، وثاني كان يريد أن يعاشرها من مؤخرتها، فضربته على وجهه، وثالث شيؤه غير قادر على الانتصاب، يقول إن جنية تسكنه، و رابع يعطيها النقود، يريد فقط التفرج على جسدها. كانت تحكي لي قصصا عن هؤلاء المرضى. ولا أدري لماذا كانت تبوح لي بكل هذه الأسرار، ربما لأنها وجدت راحتها معي، تلك الراحة التي كانت تبحث عنها، ولا أخفي سرا إذا قلت إنني كنت أحكي لها عن مغامراتي.
كانت أوضاع معاشرتي لفاطم تختلف من فندق إلى آخر. أتذكر تلك الليلة يوم جاءت ترتدي لباسا غريبا. لباس السهر.

كانت جميلة للغاية، ناعمة، بماكياج ثقيل، تغطي شعرها الكستنائي اللامع بمنديل رمادي، آنذاك كنا في الفندق المجاور ل” شيكو”. ظللت أنظر إليها طيلة الوقت، وكانت هي تبتسم بحلاوة، وتحتسي البيرة. كان ذلك المنديل الرمادي الباهر الذي يغطي شعر فاطم كأنه يحميها من غدر الزمن، وغلظة الأيام، وقسوة الحياة.
كانت ترغب في أن تزاول مهنة أخرى. في أعماقها، كانت ترغب في حياة عادية مثل كل الناس. ولم يكن بمقدوري أن أحقق لها ذلك، فتركتها لمصيرها.

في ليلة راحت فاطم إلى طنجة. لم تكن لوحدها. كانت مع بنات ليل. لا أعرفهن. اتصلت بها أكثر من مرة، وعندما تكلمنا، قالت لي بصوت مبحوح: ” أنا مريضة… لقد تعرضنا لاعتداء من طرف البوليس”. لكنني سأكون في الليل في المضيق، وانتظرتها عند “شيكو”، ولكنها لم تأت، فقلت لها: “إن أتيت نلتقي في العلبة الليلية”، لكنها لم تأت. وبرغم أنني لم أرغب في أن أفكر تلك الليلة في فاطم، تذكرت منديلها الرمادي، وابتسامتها الحلوة، وقبلاتنا، وكل الأيام الحلوة التي قضيناها معا. في تلك الليلة، داخل العلبة، كنت سكرانا، لكنني لم أكن أفكر حقيقة سوى في فاطم. كانت لدي رغبة قوية في الرقص. كنت مجروحا. وأنا مندمج في الرقص اقتربت مني قمر وشرعنا في الرقص معا. لكن عيون بنات الليل كانت تراقبنا، فطلبت من قمر أن ترافقني إلى الأريكة الحمراء، وفي سرية تامة، توافقنا، وبعض ثواني غادرنا العلبة الليلة.

في الفندق، مارسنا الحب. كانت قمر جميلة، ولها طقوس خاصة في ممارسة الحب. لكن الخبر وصل إلى فاطم على جناح يمامة، ولم تتقبل الأمر. هل أكلت الغيرة قلبها؟… لا أدري، لكنها كانت تقول لي: “كرامتي فوق كل شيء”، وكنت أقول لها: “لا بد أن تعرفي يافاطم أنني أعشق الحرية، فلا أنت ولا بيرخينيا يمكن لكما أن تقيداني”.

والحق أقول لكم إنني أحببت فاطم، وبيرخينيا، وقمر، ولكنني أحب الحرية أكثر من أي شيء آخر.
كانت قمر تفهمني أكثر.

عندما سافرت إلى مدينتها البعيدة، ظلت تكلمني عبر هاتفها المحمول أو تبعث لي رسائل قصيرة. كانت تكتب لي فيها: “تذكر أنني مختلفة”.

الآن، عدت إلى منزلي. اختفت فاطم. ربما أراها يوما في العلبة الليلية بالمضيق. لكن هل سأكون قادرا على الكلام معها؟. إنه أمر مستحيل. اختفت بيرخينيا. ربما قد ألتقيها في مؤتمر قادم، كان جمالها ساحرا مثل عطرها. لكنني آمل أن ألتقي مرة أخرى بقمر، التي اختفت. إنها تسكن في أغواري. ربما، هي من تدرك مدى حبي للحرية أكثر من أي شيء آخر.

انتهت

Loading...