قصص قصيرة ليوسف خليل السباعي (2)

ارتياب

بين أشجار غابة “النيكريطو”، وفي صباح يوم صيفي، وهو يتمشى دون أن يحدد وجهته كتائه عثر أشرف على جثة امرأة في مقتبل العمر.
أحس بارتياع. ولم يقدر بداية على النظر بإمعان إلى الجثة… الجثة المشوهة…

كانت الجثة عارية. لكنه اقترب، ويداه ترتعشان.
كان الجسم الأبيض الأسيل المخدوش… الممزق…الغارق في الدم… قد بدأ لونه يميل إلى السواد، والوجه مشوه، كأن مطواة مزقت شكله.

حاول أشرف أن يتشجع، ويقترب أكثر فأكثر، إلا أنه تراجع، ونظر إلى الوراء بعدما توهم أنه سمع حركة غير عادية. لم يكن هناك أحد، لا وجود سوى للخواء، وللأشجار. وبجسارة، اقترب من الجثة… حرك رأسها… كان بها أثر للضرب.

لا أحد عرف أو سيعرف دافع وجود أشرف في الغابة في ذلك الصباح الصيفي. شيء لايمكن أن يجيب عنه إلا أشرف نفسه. إنه كثيرا ما ينسى دوافع وجوده في كثير من الفضاءات. وحتى عندما كان يسأله قرناءه عن الفضاءات الكثيرة التي كان يلجأ إليها… الغابات… المتاجر… النوادي… السينما… المقاهي… الأحياء… كان ينسى. لكنه هذه المرة لم ينسى أنه رأى جثة امرأة مقتولة.
ماذا سيفعل الآن؟… سؤال يبعث على التحير.

أحس أشرف بارتياع للمرة الثانية. وكان يود أن ينسى ما رأى. وبدأ يتألم، وضميره يفيق. أحس بصداع نصفي… صداع يكاد يجتثث رأسه. وتذكر رأس المرأة التي كانت آثار الضرب بادية عليه. أمر غريب أن يتذكر أشرف ذلك، هو الذي ينسى حتى في أي واد تجره رجله. لكن هذه المرة ذهب إلى البعيد. إلى غابة النيكريطو، كأنما صوتا ما كان يناديه من بعيد.
شيء محير.

ما الدافع إلى خروجه من بيته بدرب بن سليمان؟ هل تشاجر مع زوجته؟… هل هرب من تسديد الديون المتراكمة عليه من البقال الذي كان يزعجه، وصاحب الكراء الذي كان يقرعه ويهدده برفع دعوى قضائية عليه إذا لم يسدد ما بذمته من دين؟ لا أحد عرف أو سيعرف الدافع لخروجه في ذلك الصباح من بيته، وقطع كل تلك المسافات على رجله للوصول إلى الغابة. شيء لا يقدر على فعله سوى أبطال الأساطير القديمة.

جلس أشرف قرب الجثة المشوهة، وشرع يفكر. لم يعد يحس الآن بأي ارتياع. فكر في الاتصال بالشرطة، بيد أنه تراجع عن ذلك. قال في سره: ” إذا بلغت الشرطة، لن يدعوني في حالي… لن أفلت قط من سين وجيم”. وقد يتهم بأنه القاتل. ماذا عساه أن يفعل؟ هل يدفن الجثة في الغابة، ويكتم هذا السر في قلبه إلى الأبد؟ إنه أمر سهل. قال في سره إنه سيتحول إلى قاتل حقيقي، مع أنه لا يقدر على قتل ذبابة، وهو غير مذنب. فكر في أن ينسى كل هذا، ويهرب. لكن صوتا في أعماقه كان يناديه بالبقاء قرب الجثة، وأن لا يتركها وحيدة، وعارية، في الغابة. لم يكن يخطر على بال أشرف أنه سيصادف بلاء كهذا في حياته، هو الوديع، الذي لم يؤذ أحدا في حياته كيف حل به هذا البلاء.

حمد أشرف الله على أن الغابة كانت خالية من البشر والطيور، لا أصوات، ولا حركات، أو أي شيء، سوى حرارة الشمس الملتهبة كالسعير.

ترك أشرف الجثة عارية، وهرب. عاد إلى بيته، وطلب من زوجته أن تدثره ببطانية غليظة لشعوره بالبرد، وهو شيء لم تستوعبه زوجته خصوصا أن الوقت صيفا. لكنها أدركت أن زوجها ينسى، وربما نسي أن الوقت صيفا، ثم ضحكت، وراحت ناحية المطبخ.

كان رجال يتجولون في الغابة، عثروا على الجثة، وبجسارة أبلغوا الشرطة التي فتح عناصرها تحقيقا في مقتل المرأة، وأخيرا اهتدت إلى القاتل.

مرت أيام وليالي… ذات صباح، وبينما أشرف بالمطبخ يحتسي كأس قهوة بالحليب ويقلب صفحات الجريدة، قرأ أن “الشرطة بعد عثورها على جثة الهالكة أخذت بصماتها لأجل التعرف على هويتها، حيث تبين من خلال استعمال الناظم الإلكتروني أن الهالكة من “الخميسات”، وبعد تحريات وبحث دقيق تأكدت الشرطة أنها أقامت ليلة الاثنين 5 يونيو في فندق بالفنيدق رفقة زوجها الذي لم يعد له أثر، غير أن دورية من دوريات الأمن اعتقلته، حيث اعترف للتو بجريمته”.

عادت الروح إلى أشرف، وأحس بانبساط غريب وفرح لأنه نجا بأعجوبة. ثم عاد ليقرأ اعتراف الزوج: ” لقد كان الدافع إلى قتل زوجتي هو ارتيابي فيها بسبب الصداقة التي كانت تربطها مع صديقة لها معروفة ب”الخميسات”، نبهتها، لكنها واصلت صداقتها لتلك المرأة، فازداد ارتيابي فيها، فخططت لرحلة إلى تطوان، ثم أقمنا بفندق بالفنيدق، وفي الصباح ذهبنا للتبضع، والتجول بالمدينة، حيث استدرجتها إلى غابة النيكريطو، التي كانت خالية وضربتها بحجرة كبيرة على رأسها، وكررت العملية بوحشية، ثم تركتها غارقة في دمائها، وخرجت من الغابة”.

أحس أشرف بصداع نصفي. ألقى بالجريدة في فضاء المطبخ، وضرب كفا بكف. وبعد هنيهة، نسي ما قرأه، بل إنه نسي أن يكون قد ذهب في صباح يوم صيفي إلى غابة “النيكريطو”.

*****

الجريمة

لاشيء يجعلك تشعر بالسعادة عند دخولك إلى حي البربورين.
حي ينقصه كل شيء، يعج بالحركة والصخب، وبروائح… وبكثافة سكانية.
كان لابد لك من اقتحام أزقة ودروب الحي الذي لم تزره منذ سنوات مديدة، لكن صورته كانت مرسومة في دماغك مذ غادرته وأنت طفل مع أبويك بعد إفراغكم بحكم محكمة من سكن للكراء وبعدما عجز والدك أحمد السبتاوي عن تسديد فواتير الكراء لعبد السلام أبوكرش الجشع.

غادرت المنزل والدموع تترقرق من عينيك دون أن تفهم، وتساءلت عندما كبرت لماذا عوملتم بتلك الطريقة الوحشية من طرف عبد السلام أبوكرش الجشع وخدامه الذين كان يأمرهم بإخراج كل أثاث منزلكم ورميه في الشارع أمام الناظرين…

مرت السنوات وكبرت، ماتت والدتك، فيما ظلت العلاقة بينك وبين والدك أحمد مشمولة بالحب، لا تشوبها شائبة واشتغلت في مصلحة البريد الواقع بساحة مولاي المهدي، وتزوجت من سهيلة لطفي التي صادفتها في طريقك وأحببتها بعمق، لكن راتبك الشهري لم يكن يكفي لسد كل الحاجيات… وبدأت الخلافات بينكما تحتدم وتتسع كالمحيط.

كنت تخرج غاضبا من المنزل الذي اكتريته في حي طفولتك، الذي أخرجت منه قهرا، وتدلف إلى حانة ومطعم “ريستينكا” تسكب في جوفك أكوابا من البيرة الباردة دون أن تبالي بأحد، وتكتم كل السباب وكل رعونات وحماقات سهيلة في أحشاء قلبك. تشرب وتشرب حتى تكاد تسقط على أم وجهك، دون أن تشعر بأي شيء، لايهمك نظرات البارمان أورواد الحانة. تقف على قدميك، تخرج وتأخذ تاكسي صغير ليوصلك إلى منزلك الأثير… تكون سهيلة في انتظارك لتصب لعناتها على أم راسك الدائخ كثور وسط حلبة مصارعة…

هل تتذكر اليوم الذي تآمر عليك رئيسك، حيث سلط عليك فتاة جميلة ومعوزة، حكت لك حكايتها، فعطفت عليها ومنحتها نقودا داخل غلاف بريدي أبيض؟ خرجت، ثم رفضت، ورمت بالنقود على وجهك، فاتهمك رئيسك بتسلم رشوة، وأحالوك على التحقيق، ثم طردوك من العمل، وأصبحت في الشارع، تفكر لحظتها في سهيلة ومصيرك… لن تفلت من سباب سهيلة، لن ترحمك أبدا، كيف سترحمك وهي لم ترحمك وأنت عامل، أما الآن فالوضع تغير، وما عليك سوى أن تستعد للمواجهة أو ترحل بعيدا، فأرض الله واسعة…

لم يكن أمامك وقتها أي حل، ولم تفكر في أبعاد ما صنعت يداك. هل كنت واعيا بما اقترفت يداك؟ كنت تقول إنها تستحق تلك الميتة كأنك كنت تقتل نفسك، أو تتخيل وجوه رئيسك في العمل وعبد السلام أبوكرش الجشع وخدامه الذين طردوك من جنتك، منزلك، كما كنت تتصوره.
كان شريط حياتك يمر أمامك سريعا كما يمر قطار على سكة حديدية، وصفيره يعلو ويعلو، والقمر يرسل نوره، ويديك تشنقان بحبل غليظ عنق سهيلة، إلى أن ينخفض صفير القطار وهديره، ويرحل القمر، وتسقط سهيلة على الأرض كغصن ذابل، فتمسك أعصابك، وبكل هدوء، تثبت الحبل في إطار خشبي لباب المنزل…

ساعتها فكرت في الهروب، كما كنت تهرب دوما من المواجهة، ولا تتغلب على نيران انفعالاتك إلا بالبكاء أو سكب أكواب من البيرة الباردة في جوفك، وتظل تشرب وتشرب إلى أن تسقط على الأرض دون صراخ أو ثغثغة.

أسئلة كثيرة كانت تتبادر إلى ذهني ساعتها، كنت أود أن أسالها لك: هل شعرت بالسعادة وأنت تقتل زوجتك؟ هل أحسست بنشوة القتل؟ هل هيجك شيء ما؟ وهل كنت تنتقم فيها من مضطهديك؟ لن أهتدي إلى أي جواب، فأنا أعرف أنك حريص على الصمت كمسدس كتوم. لكنك حيرت السارد، ولايعرف كيف سينهي قصتك…

أول شيء وقعت عليه أعين أفراد الشرطة الحبل المثبت في إطار خشبي بباب المنزل. لم تنطلي عليهم حيلة أن العملية انتحار. الخبرة الطبية أكدت أن سهيلة قتلت عن طريق الشنق. حينئذ حامت الشكوك حول تورطك في الجريمة. هل كان عليك أن تهرب؟ اختفيت في منزل والدك، وفي ضيعة فلاحية، ورغم مقاومتك لأفراد الشرطة بسد الأبواب ومحاولتك الهروب مرة أخرى، إلا أنهم كانوا لك بالمرصاد، واستسلمت..

لن تنسى سهيلة، الحبل، أداة الجريمة، المنزل وذكريات الطفولة، والدك أحمد السبتاوي، ووالدتك الذي كنت تزور قبرها كل جمعة. لن تنسى عبد السلام أبوكرش… وخدامه، صفير القطار والقمر، البريد، وحانة ومطعم ريستينكا.

أنت الآن بين أربعة جدارن، تتحسس داخل زنزانتك الظلام، وتشم رائحة كريهة، وتنتظر… إنهم قادمون، لا تستعجل موتك، فحبل المشنقة قريب…

*****

انتقام

كانت رائحة غريبة تتسرب من بيت أحمد.
رجل في الخمسين من عمره. كان يشتغل في مصنع للنسيج. ولم يتزوج أبدا. وبرغم أن المصنع كان معمورا بالعاملات، إلا أنه لم يكن يعطي اهتماما لهن.

كان يحب الصبيان، ويعاشرهم في بيته في الخفاء. ولم يكن أحد من سكان باب العقلة يعرف عن الأمر شيئا.

فالرجل كان صامتا، ساكنا، لا يثير حوله الشبهات، ولا يخرج من البيت إلا ليشتري حاجياته، وليس مولعا بالمقاهي وسعايتها، يتقن عمله، إلا أنه يلذ له معاشرة الصبيان الذين يقتادهم إلى بيته حين يكون الدرب خاليا، ولم يكن يمارس غرائبه إلا في الليل.

لم يقدر أحد من عابري الدرب، ذلك الصباح، من شهر سبتمبر، أن يمر به كما لو أن جدارا تكسر وحاصر الجميع.
كان الكل يهرب من شناعة الرائحة.

كانت فاطمة الجسورة، جارته، وحدها القادرة على الدخول إلى البيت.
تعالت صيحاتها في فضاء الدرب الضيق، وأغمي عليها لرؤيتها للدماء المحيطة بالبيت.

اكتشف الجميع أن الرائحة كانت تتسرب من جثة أحمد. رائحة غريبة. مقيتة، تجعل المرء يتقيأ ما في أحشائه.
كان لابد أن تتصل فاطمة برجال الشرطة. وهنا ستنتهي مهمتها.

كانت فاطمة مغرمة بأحمد حد الجنون، بيد أنه لم يكن يبادلها ذلك الغرام. كانت ترتدي أجمل الجلابيب، تكحل عينيها، وتضع أحمر الشفاه على شفتيها الفخمتين، وتظل تنتظر أن يفاتحها في موضوع الزواج. كان هذا حلمها الوحيد الذي لن يتحقق، لكن أحمد كان مشغولا بأمر لم يخطر أبدا على ذهن فاطمة، ولم يفكر أبدا في الزواج.
ها هي فاطمة، الآن، تبكي بمرارة على بشاعة مارأته. ولم تفهم ما وقع بالتحديد، شيء لم تقدر على تفسيره. لقد بقيت لدقائق فاغرة فاها، ومتوجسة من ذلك المشهد الدموي الخطير.

دخل رجال الشرطة إلى البيت، يتقدمهم الضابط أيمن، كان يرتدي معطفا أزرقا، ونظارات سوداء. غاصت أحذية رجال الشرطة في الدماء المحيطة بالبيت… وتحولت ألوانها السوداء إلى حمراء. وما إن مشى الضابط أيمن قليلا حتى وقعت عيناه على جثة أحمد. كان مكبل اليدين والرجلين ومكمم الفم، وجسده مثقوبا بمدية، ولكن الشيء الذي أثار اندهاش الضابط هو ذلك الجرح الغائر بمؤخرة الجثة التي كانت تفوح منها رائحة كريهة. أدرك الضابط أن الجريمة سببها الانتقام. وكان همه الوحيد الوصول إلى القاتل.

بعد بحث في المطبخ وغرفة النوم، عثر شرطي على سروال جينز أزرق ملطخ بالدماء، جلبه للتو للضابط الذي ما إن فتش في أحد جيوبه حتى عثر على وصل اشتراك في ناد ثقافي، وعن طريق الإسم وصلت الشرطة إلى صاحب الوصل، الذي تم اقتياده مكبلا إلى قسم الشرطة.

دخل الرجل. كان الضابط أيمن جالسا على كرسي جلدي أسود حاملا في يده اليمنى سكينا صغيرا، يلعب به. قال له: ” اجلس”، ارتبك الرجل ولم يعرف سر اقتياده إلى قسم الشرطة الذي يدخله لأول مرة في حياته. وبعد لحظات صمت، أخرج الضابط أيمن الوصل من درج المكتب، ودعا الرجل لرؤيته، ومن غير تفكير، سأله: “لماذا قتله؟”، فأجابه: “ماذا تقصد ياسيدي… لم أقتل أحدا”. وبعد سين وجيم اعترف الرجل بأن الوصل يخصه، لكنه لم يقتل أحدا، ثم قال: “إن إبني يستخدمه كبديل عن البطاقة الوطنية… وأنا لا أعرف أين يعيش حيث غادر البيت منذ ثلاث سنوات”.

أخلي سبيل الرجل الذي خرج من القسم منهك القوى، وبقي الضابط وحيدا في مكتبه يفكر وعيناه تحملقان في السقف، فيما يده اليمنى تلعب بالسكين الصغير.

كان تفكيره يذهب إلى بشاعة الجريمة، وخلق في رأسه سيناريوهات لها. ولم يصل إلى أي شيء. الشيء الوحيد الذي لديه الآن هو أنه اهتدى إلى القاتل الحقيقي. وما عليه الآن إلا أن يتحرك لاعتقاله. سيبدو الأمر سهلا في أول الأمر، إلا أن القاتل اختفى. كل ما كان يهم الضابط أيمن هو أن يعرف مكان اختفاء القاتل. ظل لشهور عديدة يبحث عنه، وأحس بإرهاق شديد. أهمل كل الملفات، كأنه لم يكن أمامه سوى هذا الملف. وحين عجز عن الوصول إلى القاتل الحقيقي طلب منه رئيسه أن يترك الملف لضابط آخر.

فأحس الضابط أيمن بالإذلال، وقدم استقالته التي قبلها رئيسه دون جدال.

حاول الضابط الجديد أن يصل إلى معلومات جديدة عن القاتل، لكنه فشل. كان فشله في هذا الملف سببا في تنقيله التأديبي إلى مدينة أخرى، فبقي ملف الجريمة معلقا.
كان القاتل يغير المدينة كما يغير حذاءه.

لم يستقر أبدا في مدينة واحدة. قطع مسافات طويلة على رجليه وعلى متن حافلات وسيارات أجرة دون أن يعرف أحد أنه هارب من جريمة قتل. نام لشهور في الغابات، وفي بيوت الغرباء، ومع المتشردين، بل وحتى في المساجد. ولكن لا أحد عرف أنه القاتل. كان يحتفظ بسره لنفسه.

وفي ليلة مقمرة، داخل غرفة شيخ غريب استضافه عنده في بيته رأى فيما يرى النائم أنه يطعن بمدية جثة أحمد ألف طعنة ويضاجعها… فأحس باختناق، صرخ بقوة، ثم استفاق، ونهض. توجه إلى المطبخ، فتح الثلاجة، أخذ قارورة ماء وشرب حتى ارتوى، ثم عاد ليتم نومه.

في الصباح، قال له الشيخ الغريب: “يبدو أنك رأيت في حلمك شيئا عجيبا”، فأجابه ببساطة: “لا ياسيدي… إنه حلم عادي”. أدرك الشيخ الغريب أن القاتل يكتم أمرا ما، وانتظر لشهور عديدة حتى يعرف ذلك السر الذي يخبئه القاتل بين أضلاعه لعله يتحرر منه. لكنه لم ينطق… وفي ليلة عاود القاتل نفس الحلم، وصرخ بقوة ولم يتوقف عن الصراخ الذي جعل الشيخ الغريب يفتح باب غرفة نوم القاتل، ويقترب من مضجعه، ويسأله عن حلمه هذه المرة، فإذا بالقاتل يقول له إنه نفس الحلم.

وليفرج عن همه، قال القاتل: ” كان أحمد الكلب يضاجعني كل ليلة أذهب معه إلى بيته. وفي ليلة رفضت الانصياع لرغبته، أكرهني على أن أمارس له العادة السرية، فنفذت ذلك غصبا عني، ولما نام جلبت مدية من المطبخ ووضعتها تحت حزامي، ثم فكرت في تقييد أحمد، لكنه استفاق وحاول أن يقاومني، فعالجته بطعنة قوية في قفصه الصدري، فحاول الإفلات، غير أنني ظللت أطعنه في جسده حتى خارت قواه، وحملته إلى المطبخ، حيث اعتقدت أنه فارق الحياة، لكنه صرخ، فرفعت حجرة كانت بالمطبخ وهويت بها على فمه، فمات في الحال، فقمت آنذاك بتكبيل يديه بواسطة حبل ورجليه بواسطة حزام سرواله، ووضعت قطعة من القماش في فمه، ثم خرجت دون أن يراني أحد تاركا البيت غارقا في الدماء”.

أصاب الشيخ الغريب عجب. وتمنى أن يكون ماسمع مجرد حلم أو هراء. وراح ناحية النافذة وفتحها بتؤدة. وألقى نظرة على السماء المتشحة بالنجوم، كما لوكان يشاطرها أسرارها، وخرج من الغرفة تاركا أحمد رافعا رأسه إلى السقف غارقا في تفكيره الصامت.

اللوحة للفنان التشكيلي محمد بوزباع

Loading...