مصطفى بودغية
ما معنى الصداقة في التصور الأرسطي؟..”إما أن تستمر صديقاً أو لم تكن أبداً”..تنسجم هذه القولة مع تصور أرسطو للصداقة حين تعني أن الإنسان إذا لم يعد صديقاً فهو لم يكن كذلك أبداً ؟..ما نوع العلاقة التي تربط طرفي الصداقةً؟.. سؤال يدفعنا إلى تناول معاني الصداقة عند “أرسطو”..
يعتقد “أرسطو” أن الإنسان مدني بطبعه.. أي أنه محكوم عليه بالعيش مع الآخرين وفق قواعد معينة تحددها “المدنية”.. وتستمد “المدنية” أساسها وقوتها من اللغة..الإنسان حيوان ناطق..الكائن البشري الذي لا يعيش مع الآخرين هو في اعتقاد “أرسطو” إما “إلــه” مكتف بذاته لا يحتاج إلى أحد..أو “وحش ضار” لا يتحمل أحداً ولا يتحمله أحدٌ..ولهذا الإنسان يسعى إلى المدنية وإقامة النظام والدولة بحكم المنطق المكون لطبيعته ذاتها.. أي أن المدنية تسبق الإنسان سبقا منطقيا وليس سبقا زمنيا كرونولوجيا.. يقيم الإنسان علاقات متعددة في المجتمع.. ومن ضمن هذه العلاقات علاقة “الصداقة”.. غير أن الصداقة تتخذ عدة أشكال.. في تصور “أرسطو”.. يحصرها في ثلاثة أنواع رئيسية : صداقة المتعة..صداقة المنفعة..صداقة الفضيلة..
تسود “صداقة المتعة”..غالبا بين الشباب حيث حياة اللهو والعبث..وغياب جزئي أو كلي للجدية..فيرتبط الشباب مع بعضهم البعض لأجل التمتع بالحياة والترفيه وممارسة العبث المرح دون اكتراث لأي شيء آخر.. ويكون منهم الأكثر توفراً على الأصدقاء هو الأكثر مرحا أو الأكثر قدرة على خلق فرص المتعة واللذة.. الذي له القدرة على جعل رفاقه يستمتعون أكثر بالحياة..لكن هذه الصداقة تنتهي مع انتهاء “المتعة” أو انتهاء “القدرة” على جعل الآخرين يستمتعون بالحياة..
ترتبط “صداقة المنفعة” غالباً بفضاءات السوق وعالم التجارة والتبادل التجاري أو بأي مجال يجلب المنافع للأشخاص.. ولهذا تنتشر بين التجار لتبادل المنافع فيما بينهم..وكلما كان الشخص نافعاً أكثر توسعت دائرة أصدقائه أكثر..لقدرته على جلب المنفعة لهم..ولرغبتهم في الاستنفاع منه..لكن هذا النوع من “الصداقة” يموت مع اختفاء المنفعة..وعندما يفقد الإنسان قدرته على جلب المنفعة لمن يرتبطون به طلبا لها..ينفضون يدهم منه..وكأنهم لم يكونوا أصدقاءه من قبل..
تبقى “صداقة الفضيلة” التي لا تربط إلا بين “الفضلاء” المتميزين بـ”الفضيلة” ..و”الفضيلة” هي اكتساب القيم الأخلاقية والقدرة على تمثلها..والتشبع بها..وممارستها في الحياة اليومية..طبعا “القيم الأخلاقية” كما كان يتصورها اليونان في عصرهم..”الفضيلة” في مجال علاقات الصداقة تعني محبة الشخص في ذاته ولذاته..لا طمعا في متعة ولا في منفعة..لكن الإنسان الفاضل لا يحب إلا شبيهه في الفضيلة..يتعامل مع الناس كل الناس..لكنه لا يرتبط بصداقة الفضيلة إلا مع من استطاعوا أن يصبحوا فضلاء متشبعين بالقيم الأخلاقية التي تقوم على أساس “الاعتدال” وهي القاعدة العامة التي تنبني عليها كل القيم الأخلاقية..حيث كل قيمة أخلاقية لا تستوي إلا بين نقيضين..الحرية بين العبودية والفوضى..والشجاعة بين الجبن والتهور..والكرم بين البخل والتبدير…
“صداقة الفضيلة” لا تنمحي ولا تزول ولا تنقضي..لأن الفضيلة إذا سكنت الإنسان أقامت فيه إلى الأبد..ولهذا لا يترك الصديق الفاضل صديقه مهما حصل..بل أكثر من ذلك..صداقة الفضيلة من حيث أنها تقوم على المحبة الخالصة فإنها تتجاوز صداقة المتعة وصداقة المنفعة..تتجاوزهما بالمعنى الفلسفي..أي تحتفظ بهما..إن صداقة الفضيلة تجلب المتعة والمنفعة للصديق وتتحرر منهما في نفس الآن…..