رهائنُ السّاعة الخامسة والعشرين

عائشة بلحاج

تفتحُ الهاتف صباحًا، مُفرجًا عن إمداداتِ شبكة النّت لغرضٍ ضروري، فينفجر نهرُ الرّسائل والإشعارات في وجهك؛ بحيث تحتاج لصرف دقائق من مخزون صبرك، قبل أن يهدأ الهاتف أخيرًا، ويسمح لك بالبحث عما تحتاجه أنت، لا ما يعرضه الآخرون من محتوى يُشعرهم تقاسُمه بلذة، أو إنجاز لا تفهمه أنت.

إنّهم هنا عندما لا تريد، لكنّك لا تستطيع الاستغناء، لذا لا تلجأ إلى حظرهم أو منعهم من إزعاجك. ثم إنّهم يتكاثرون حتى لو وضعتَ رسائل أحدهم في وضع صامت، سيأتي غيره ليرسل لك بطاقات صباح الخير، أو فيديوهات أو ما يشاء مما يظن أن هناك واجباً مقدسا يفرض عليه تقاسم ما لديه فَرِحاً به. تردُّ أحياناً، و”تُطنّش” أحياناً، وتنفجر أحياناً أخرى فيمن كان حظه سيئاً، ليكون القشّة التي قسمت ظهر الصّبر التواصلي؛ “للصّبر حدود”، وليس لجوع التواصل نهاية.

رغم كراهيتنا للوضع لكننا لا نتخذ حلولاً جذرية؛ هل لخوفنا من البقاء وحيدين؟ فحتى المنعزلون منا، وأصحاب الفوبيا الاجتماعية يجيبون في النّهاية رغم كل شيء. قد يجيبون بتأفّف، أو اشمئزازٍ تفضحه الكلماتُ الوجيزة والصّارمة التي يردون بها، لكنهم يجيبون. رغم أنهم يكرهون ذلك، لكنهم يفعلون من باب الترضية فقط. وربما يهتم الطرف الآخر بما يبعث لك، كأنّ حياته تتوقف عليه، وقد يعتبر عدم تجاوبك إهانة لا تغتفر لكبريائه الافتراضي، الذي يصبح حقيقياً أكثر مما توقّعنا. فمشاعرنا الافتراضية تغدو بشكل تدريجي أكثر جدية وحساسية، من تلك الواقعية، وقد تستبدلها قريبا.

عدا عن رسائل السؤال، والتحية والأدعية الصباحية، ينهمر من هاتفك سيلُ الفيديوهات التي تدعم تنميط التفكير، والتجييش المُمنهج لمشاعر الناس، من دون وعي أصحابها أنّهم أفرادٌ في قطيع هائل يَتَسلم الرّسائل، يشاهد وُيسلّم؛ بغض النّظر عن المحتوى، أكان مضحكاً أو موجهاً للعبرة “الدينية، أو بشكل رئيسي للفخر “الوطني” أو ” للنوع الجنسي”، ففي جميعها رسائل وأنماط تفكير تدعم اتجاها ما.

هناك فئات تتبادل فيديوهات الميتات الشنيعة، وصور مفصلة لموتى وهم يُغسّلون ويُدفنون بذلك، لتذكيرك بالمصير الحتمي. لا يعرفون ما تسبّبه هذه المشاهد من صدمة للبعض، وهي تتطفل على حرمة موتى لم يُستأذنوا قبل أن يصبحوا “البعبع” الذي يخيف السّاهين عن الدين. ولا التطبيع الذي يحصل مع الموت حتى يفقد أثره، ونصبح أحياء بلا مشاعر، وموتى بلا حزن.

أو يتبادلون فيديوهات في ظاهرها مضحكة، وهي عُنصرية بشكل مقيت. حتى أن معظم النكت تقريبا تقوم على العنصرية والتحيّز والاستهزاء من الآخر. والضّحية الأولى هي المرأة؛ فنكت الاستهزاء من المرأة التي يتداولها الجميع بما فيهم النّساء، من دون إدراك لأثرها النفسي وتكريسها لصُورٍ نمطية للمرأة. في الدرجة الثانية، يأتي الآخر المُختلف عنا، سواء أكان أسود البشرة أو أجنبيا، أو ينتمي إلى طائفة أخرى في البلاد أو عرق آخر، أو دين آخر، أو عشيرة أخرى؛ الآخر، هو المضحك والسّاذج والمغفل، وإذا كانت الأنا هي ما تتمحور حوله النكت، فتكون أنا طريفة ثائرة حذقة، تقدّم تعليقات وأجوبة على مواضيع سخيفة، بلسان اللبيب الحذق الذي يُحوّل معاناته إلى ابتسامة، وهي نكت قليلة وحديثة نسبياً.

هناك فيديوهات للإلهاء أو تحريك الحشود؛ عندما ينتشر فجأة تسجيل صوتي عن امرأة تسرق البيوت، أو عصابة تستعمل طريقة مبتكرة لسرقة ضحاياها، متضمنا تحذيرا شديدا منها يبدأ عادة بـ “أخواتي إخوتي انتبهوا جزاكم الله خيرا، هناك عصابة خطيرة.. أو لصة خطيرة تقتحم البيوت مستغلة كرم نساءنا..”، وغيرها من طرق اللّعب بالعقول، وهي ما تستثمره الدول السّلطوية في التحكم بعواطف مواطنيها. خاصة ما يتعلق بحركة احتجاجية، أو انتشار تذمر عام من وضع صحّي مثل مواجهة وباء كورونا، أو وضع اقتصادي مثل غلاء الأسعار، أو اجتماعي مثل جرائم الاغتصاب أو التحرش أو العنف المدرسي. هنا تنشط الجيوش الإلكترونية لتُحوّل يومك إلى سيرك.

الغريب أن تصلك هذه الفيديوهات التي تَفترضُ نوعاً من السذاجة، أو عدم الإدراك أو سهولة الانقياد للموجات العامة، أو غياب فكر نقدي أو غياب التفكير حتى، من مثقفين أو أناس على قدر كبير من التعليم. تفترض مبدئياً أنهم هم الجدار الواقي مقابل هذه الموجة من غسيل الدماغ الإلكتروني، التي تجد في ربات البيوت، والأطفال، وذوي التعليم المحدود، ضحايا سهلة ووسائل لإعادة ترويج المحتوى. لكنك تُفاجأ أنهم يروّجون هذه الفيديوهات بحماس يجعل آمالك في المجتمع تضرب رأسها إلى الحائط. لذلك رغم أن وسائل التواصل الاجتماعي حولت “الفضاء العام إلى مجال لتبادل المعلومة، وتحقيق تواصل حر منفلت من كل رقابة” حسب هابرماس، لكن كيفية تدبير علاقاتنا داخلها، بحيث لا تصطدم بحرية الآخر، وحقه في العزلة والصّمت، أمر واجب الانتباه له.

أسترجع مثال صورة إعدام شخص قيل إنها في إيران، سُوّقت مرات عديدة من مثقفين وشعراء على أنّها لشاعر عربي يُعدم. وتغيب الصّورة بضعة سنين، ثم تظهر هكذا من العدم. إلى جانب أنماط من الرسائل التي تحذر من فيسبوك، أو من قراصنة مفترضين.. تتكرر بشكل مزمن، وتوقع ضحايا كثيرين من أناس نفترض فيهم التبصر. تغيب هذه المنشورات، وتعود في موجات جديدة، وأنت لا تملك سوى الاستغراب لسهولة وقوع الفئات المتعلمة في فخها مرارا وتكرارا، وتزيدُ الأمية المعلوماتية لكثير من المتعلمين والمثقفين العرب الطين بلة.

في هذا يدهشني أن يذّكرنا البعض بأنّه ضعيف في التقنيات من دون شعور بالنقص لذلك. وهو هنا لا يتحدّث عن برمجيات متقدمة، بل عن استعماله لوسائل التواصل، ما يجعلهم -وهم يستعملونها- غير مدركين لصيرورة الأفكار وطريقة تبادلها وانتشارها في عالم أصبح تواصلياً أكثر مما يجب. ويوما ما، سنجد أنفسنا عبارة عن حسابات في عدد من وسائل التواصل الاجتماعي، مع تكاثرها الكبير، واتساع المساحة التي تشغلها في حياتنا اليومية والعملية، ما يهدد بفقدان شعورنا بالواقع كلياً.

Loading...