مصطفى بودغية
كنا نسمع في المذياع كلمة “الأثير” تتردد كثيرأ..نسمع مثلا: (سيداتي وسادتي..ننقل لكم عبر أمواج الأثير أغنية كذا..أو سيداتي سادتي..لا تزال برامجنا تصلكم تباعا عبر أمواج “الأثير”.. ).. فما هو “الأثير” ؟؟..وما معناه ؟؟
“الأثير” كلمة مدلولها إغريقي..استعملها “أرسطو” ليفسر بها “المادة” المكونة لعالم ما فوق القمر..عالم الكمال والأبدية..هذه المادة تختلف عن المواد التي يتكون منها عالم ما تحت القمر وهي العناصر الأربعة (الماء والتراب والنار والهواء)..عالم ما تحت القمر ليس إلا عالم الفساد والفناء..حسب “أرسطو”..استمر هذا التفسير قائما..مع هيمنة النسق الفلسفي الأرسطي..رغم النقاش الذي كان يدور أحيانا..خلال العصر الوسيط..مدفوعا بشكوك حول “حقيقة” وجود عالميْن مختلفين..كان هذا النقاش يجري بين العلماء/الرهبان داخل الكنائس المسيحية في أوروبا..إلا أنه نقاش كان يتم داخل النسق الأرسطي بهدف تعديله..لأن “الأرسطية” شكلت إلى حد ما..بعد تعديلها طبعا..الخلفية “المعرفية” للمسيحية..وشكلت “تعاليم” عيسى وجهها الوعظي الإرشادي..استمر الأمر هكذا حتى بداية التحولات الكبرى في المجتمع الأوروبي..وظهور “الثورة الفلكية الكوبرنيكية” التي أثرت بشكل مباشر في علم “الفيزياء”..وبداية انفصال العلوم عن الفلسفة..حيث أثبت علم الفلك أن هناك كونا واحدا مركزه الشمس..لكن الأثير ظل مؤثرا في علم “الفيزياء”..خاصة حين عجز العلماء عن تصور وتفسير حركة الضوء في فراغ الفضاء الخارجي..وافترضوا أن لا بد من وجود مادة وسيط تسمح له بالحركة عبرها..تصوروا أن هذه المادة الوسيط هي “الأثير”..واعتقدوا أنه لا يمكن الإحساس به ولا رؤيته وليس له وزن..”الأثير” يلف العالم والمادة..وهو ثابت والعالم متحرك..وتأرجح علم الفيزياء بين افتراض وجود ونكران هذا الوجود..خاصة بعد اكتشاف طبيعة الضوء باعتباره موجات كهروماغناطيسية..لكن بعد ذلك أثبتت الفيزياء من خلال نظرية “إنشتاين” أن الضوء لا يحتاج إلى وسيط في حركته..وأن سرعته هي أقصى سرعة ممكنة في حدودها القصوى..وفي مسار آخر..أثبتت الكيمياء المعاصرة أن العالم مكون من نفس العناصر.. ليس هي الأثير ولا العناصر الأربعة..وإنما هي عناصر أخرى وصلت إلى حدود سنة 2016..(إلى 118 عنصر.. أغلب العناصر من 1 إلى 98 متوفرة في الطبيعة بشكل أو بآخر..في حين أن العناصر من 99 إلى 118 مصطنعة فقط في المختبر) “عن ويكيبيديا”..ومهما يكن ففي العلم الحديث لم يعد هناك عالم ما فوق القمر ولا “الأثير” مادة خاصة مكونة له تميزه عن العالم السفلي..
لكن رغم فقدان كلمة “أثير” علميا وفيزيائيا لحمولتها “المعرفية” و”الفلسفية”..احتفظت بدلالاتها الرومانسية الأدبية المجازية.. وظلت تتردد في النصوص الأدبية..ونسمعها في وسائل الاتصال السمعية..حيث يرسل الأهل الأحبة لبعضهم البعض رسائل وأغانٍ عبر أمواج “الأثير”..