يستعيد إدواردو غاليانو أسلوبه المعهود لتقديم كتاب أساسي في مكتبة أي قارئ، ليس لجهة المعلومات التي يقدمها، وهي في غاية الأهمية، بل للشكل والأسلوب والاختزال، ولقرب المورد، إذ تشكل مادة مجمَّعة تغني القارئ عن البحث، إلا إذا كان ذلك للاستزادة في التفاصيل، أو للتأكد من دقة المعلومات من مصادر أخرى، ولا يمكن هنا إغفال الأسلوب الذي يجمع بين الاختزال الصحفي واللمسة الوجدانية التي تقترب من البلاغة الشعرية دون أن تدَّعي ذلك. ولأن هذا الأسلوب هو ما اشتُهر عن غاليانو، فإن للقارئ أن يتوقع ما كان يجده في كتابات سابقة له، لكن طبيعة المادة التي يقدمها في “مرايا” تفرض ابتعاداً نسبياً عن التخييل المعروف عنه سابقاً لمصلحة مادة شبه علمية، شبه تاريخية، التزاماً على الأقل بالعنوان الفرعي للكتاب “ما يشبه تاريخاً للعالم”.
وفي الواقع، يلتزم الكتاب بإظهار هذه الميزة، إذ يجول الكاتب في أربع جهات العالم، موقعاً على التاريخ القديم للشرق، من مصر والعراق وسورية وفارس، ومن اليونان إلى الصين، ومن أفريقيا إلى الأميركيتين، اللاتينية والشمالية، لتحظى أميركا الجنوبية بنصيب وافر من السياسة والتاريخ القديم والإنسان والثورات التحررية، فتلك القارة ـ البلاد تشترك في مناخ واحد، فرض مزاجاً واحداً، ومخرجات تاريخ وجغرافيا شبه واحدة، فكلها اشتركت في الماضي الواحد للحضارات الهندية بمعتقداتها وإنجازاتها، وكلها اشتركت في كونها حديقة خلفية للبيت الأبيض الأميركي، فتلقت مؤامراته وانقلاباته التي أنتجت ديكتاتوريات ذهبت مضرباً للمثل في العالم كله، وليس آخر هؤلاء “أوغستو بينوشيه” الذي أجهض الديموقراطية التشيلية في أواسط سبعينيات القران الماضي، وقتل الرئيس سلفادور الليندي، بمساعدة طائرات المخابرات الأميركية.
من مثل هذه المفردة يتكون الكتاب، وللتمثيل على ذلك نذكر بعض العناوين التي فاقت 600 عنوان، لكن العنوان قد لا يكون دالاً على المضمون بوضوح، فأحياناً يكون قصيراً جداً، وأحياناً يقبل أكثر من تأويل. وللدلالة نقرأ: أجداد، أبناء عمومة، تأسيس الكتابة، من طين نحن، حجر يتكلم؛ ونحو ذلك.
وفي قطعة بعنوان “خطر في الطريق”، يكتب غاليانو: “في محيط إشبيلية، شتاء 1936: الانتخابات الإسبانية تقترب. سيد إقطاعي يجول على أراضيه، وفي الطريق يصادف رجلاً بأسمال. ودون أن يترجل عن حصانه، يناديه السيد ويضع في يده قطعة نقدية وقائمة انتخابية. يفلت الرجل الشيئين، قطعة النقد والقائمة، ويقول وهو يدير ظهره للسيد: في جوعي أنا الآمر”.
كما يروي غاليانو حادثة تتعلق بلوحة “غيرنيكا” للإسباني بيكاسو، بإسقاط على مستقبل لوحات “غيرنيكا أميركية”، فيكتب “بعد سنوات طويلة من ذلك، في نيويورك، كولن باول يلقي خطاباً في الأمم المتحدة، ويعلن عن تدمير العراق الوشيك. وبينما هو يتكلم، لا تظهر خلفية القاعة، غيرنيكا لا تظهر. نسخة لوحة بيكاسو التي تزين الجدار غُطيت بالكامل بقطعة قماش زرقاء ضخمة. سلطات الأمم المتحدة قررت أن تلك اللوحة ليست الخلفية المناسبة للإعلان عن مجزرة جديدة”.
وعن محمد علي كلاي، يكتب بعنوان: علي “…أسموه خائناً للوطن. وهددوه بالسجن، ومنعوه من مواصلة الملاكمة. انتزعوا منه لقب بطل العالم. وقد كان ذلك العقاب هو انتصاره. فبانتزاعهم التاج منه كرسوه ملكاً. بعد خمس سنوات من ذلك، طلب منه بعض الطلبة الجامعيين أن يلقي عليهم شيئاً، فاخترع لهم أقصر قصيدة في الأدب العالمي: We, Me
عن صفحة إدواردو غليانو في ال” الفيسبوك”