كوابيسُ بيروت

عائشة بلحاج

قرأتُ رواية غادة السّمان “كوابيس بيروت” (صدرت طبعتها الأولى في 1976) التي تحكي يوميات الحرب اللّبنانية لعام 75، في تسعينيات القرن الماضي، كأوّل عمل أطلع عليه تقعُ أحداثه في بيروت، قبل أن تُصبح إحدى الأمكنة التي لا تكتمل الكتب من دون المرور بشوارعها، ومقاهيها، وجرائدها. كلّ شيء يبدأ من بيروت: الحياة والجمال والفنّ… حتى مقاومة الموت وبؤس السّاسة، لا يُماثلها في مواجهته أحد. ما منحتنا إيّاه بيروت من ضوء، يوازي ما منحته جلّ الدول العربية معا، من شعراء ومفكّرين وفنانين، ودور نشر ساهمت في تنوير أجيال بأكملها، استيقظت على حب بيروت، وما يأتي من بيروت.

لطالما أدهشتني قوّة تحمّل أهلها في ظروف الحرب والصّراع السياسي القاتل، وهو ما يفسّر الحنين الدّائم للمغادرين لاحقًا، رغم أنّ ظروف الحياة في بيروت لم تعد مُرضية، لأصالة المدينة وما تختزنه من تاريخ. لكن للأسف ما أنجبته من جمال، وما أضافه لها غنى مجتمعها، حوّله ساستها إلى دمار -رغم تفوّقها في الآداب والفنون- لكن هذا الوعي لم يؤثر على مشهدها السياسي أو على نخبتها.

ورغم أنّني لا أحب حكايات الأحلام والكوابيس والرُّؤى، إلّا أنّ الكابوس الذي رأيت أياما قبل الانفجار، لم يغادرني. مع أنّني كثيرًا ما أحلم بأشياء تقع أحيانًا بشكلٍ مباشر وفوري.

وغالبًا لا أنتبه لذلك إلّا بعد حدوثها، لذا صدّقت الحكاية ورحتُ أبحث عن تفسير لكلّ حلمٍ أراه ولا أفهمه. وكانت عيناي تقع غالبا على تفسيرات غبّية، أو عامة أو تقليدية، تُفرّق مثلًا بين الحلم إذا رآه رجل أو امرأة، أو رأته امرأة عازبة، حيث تعدها تلك التفاسير غالبًا بعريس أو بـ”عنوسة” مزمنة. أما المتزوجة فسيصيب زوجها شيء ما، خيرًا كان أو شرًا… لأنّ تفسير الأحلام في الثقافة العربية مازال غارقًا في مقولات ابن سيرين.

لما مثلًا بحثت عن تفسير حلم سقوط الأسنان، وجدت أن التفاسير تعتبر الأسنان العلوية كناية عن الرّجل لما له من قوامة حسب هذه الرّؤية، والسّفلى تمثل النّساء. حيث ورد بالحرف عن تفسير ابن سيرين الذي نقلته المواقع واعتمده المفسرون: “العليا هم الرجال من أهل البيت والسفلى هم النساء، فالناب سيد بيته والثنية اليمنى الأب والثنية اليسرى العم وإن لم يكونا فأخوان أو ابنان فإن لم يكونا فصديقان شقيقان. والرباعية ابن العم والضواحك الأخوال والخالات ومن يقوم مقامهم في النّصح، والأضراس الأجداد والبنون الصغار. والثنية السفلى اليمنى الأم واليسرى العمة، فإن لم يكونا فأُختان أو ابنتان أو من يقوم مقامهما، والرباعية السفلى بنات العم وبنات العمات. والناب السفلى سيدة أهل بيتها والضواحك السفلى بنات الخال والخالة. والأضراس السفلى الأبعدون من أهل بيت الرجل من النساء والبنات الصغار”.

ومع ذلك لم يغادرني الكابوس الأخير الذي وضعني داخل مجزرة رهيبة في متحف اللُّوفر. في قسم يضمّ الكتب فقط، وهي كتب عربية في غالبها، والقاتل شخص عربي يعمل هناك. كنت مرعوبة طوال الوقت، أركض من غرفة إلى أخرى، مثل آخرين. أحاول مساعدة جريح أو عاجز، لكني أهرب حالما يقترب القاتل، الذي كانت له سطوة غريبة تجعل الضّحية تفقد قدرتها على الحراك حالما تصبح في مد نظره. طالت المطاردة وأوشك القاتل أن يقضي على كل المحتجزين في المتحف، إذ لم يكن هناك من مخرج متاح.

كان الكابوس أشبه بفيلم “الصرخة” الذي يقدم ضحايا سذجا يقعون بسهولة في يد القاتل الذي لم نفهم -بعد كل الأجزاء التي أنجزت من الفيلم- لِم كان يقتل؟

كان الشّعور بالخوف حقيقيًا، وعبثيًا، لدرجة أنّني شُللت أمام القاتل لما وجدني بسهولة بعد إجهازه على ضحاياه، وقلت: لماذا؟ كنت أسأل بغضب وحرقة رغم الرعب الذي شكله احتمال أن يهوي علي بسيفه في أي لحظة. لكن حرقة “لماذا” كانت أكبر. لماذا تقتل؟ لماذا دمّرت القسم العربي من اللّوفر بناسه وكتبه؟ لم يكلّف نفسه عناء التفسير، وربما قال شيئًا مثل: احمدي الله أنّني لم أبدأ بك.

نجوتُ وخرجت. وإذا بالمدخل – الذي هو المخرَج أيضًا- مُغطّى بالسّجاد الأحمر، حيث يبدو أشبه بمدخل قاعة سينما ضخمة وبراقة، تتصدّره إعلانات الأفلام. وإذا بالكابوس ينتقل بين مَشاهد حية على المسرح، تُعرض في قاعات صغيرة داخل المبنى. وإذا بي، بدلًا من الخروج، أدخُل وأُطلّ من خلال شقوق السّتائر لأُلقي نظرة على المشاهد، التي بدا بعضها سورياليًا وخارج السّياق…
لَم تغادر الحرقة حلقي، وبقيت أغمغم: لماذا؟ ماذا عن القتلى والكتب؟ كيف نسي الناس بسهولة وواصلوا أداء العروض ومشاهدتها؟ كانوا يدفعونني إلى الدّاخل كلما خرجت. اختفى الدّمار الذي تركه القاتل والجثث، وحلت محله مظاهر حياة مسرحية، تمنع من التفكير فيما حدث.

استيقظت وبي ألم وإنهاك، وقضيت اليوم مستغربة من الألم الذي تركه الكابوس، رغم أنّني نجوت وكان يجب أن أفرح لنجاتي وحدي، لكنّني لم أفعل. فلا أحد ينجو فعلًا من الكوارث التي مرّ منها، حتّى لو لم تأخذنا فإنّها تأخذ أجزاء منا… إن لم تلمسنا في أجسادنا، تلمس أرواحنا وتأخذ أرواح الأصدقاء والرّفاق، وأماكن لا تُغادرنا حسرتها.

مساء ذلك اليوم، حدث انفجار بيروت، وتدمّرت مدينة وتاريخ، وقُتل أبرياء، وأصيب آخرون وكثيرون أصبحوا بدون بيوت. إنّها ليست مسألة داخلية، إنّه حادث عالمي مروع، وبيروت ليست مجرد مدينة، إنّها تراث إنساني. في تداعيات الانفجار، شاهدت شابًا لبنانيًا قُتل أخوه يصرخ: لماذا؟ من أجل ماذا مات أخي؟ ومن قتله؟ وماذا أقول لبناته؟

لعلّ كابوسي رؤيا، وربما كان هاجسًا، لكن ما الذي تبقّى من حديث عن بيروت سوى: لماذا؟ لماذا دُمّرت؟ ولماذا لا أحد يُحاسَب؟ ولماذا لبنان وحيد في هذا المصاب وغيره، منذ أن قلّل تطبيع بعض الأنظمة العربية مع الكيان الإسرائيلي من أهميته، كموقع استراتيجي على الحدود مع العدو؟ في الكابوس رقم “1” كتبت غادة السّمان: “حينما طلع ضوء الفجر، كان كلّ منا يتأمل الآخر بدهشة: كيف بقينا أحياء؟ كيف نجونا من تلك الليلة؟”

Loading...