(*) مريم معاد
هتك العرض، الاغتصاب والتحرش بالقاصرين، مسلسل جرائم تكاد تتكرر كل يوم في العالم القروي، ويسدل عليها الستار في صمت عميق، بل أضحت من المسلمات إذا لم أبالغ في القول، فحسب مجموعة من الأبحاث الميدانية، وجدت أن أطفال العالم القروي يتعرضون بشكل مستمر لكل هذه الجرائم، إذ إن نمط العيش، وقساوة الظروف، يجعلان الطفل(ة) في اصطدام متواصل مع كل أسباب التحرش والاغتصاب، سواء في الطريق إلى المدرسة، أو في مختلف محطات ومسارات واقعه اليومي.
ويأتي غياب، أو انعدام حتى، التوعية في العالم القروي، ليجعل من الطفل(ة) تربة خصبة لأعطاب نفسية قد يصعب تجاوزها لاحقا، نظرا لسيادة ثقافة “الحشومة” و”العيب”، بل أحيانا يتم تعنيف الأبناء من طرف الآباء إذا اشتكوا أو أفصحوا عن تعرضهم لتحرش أو اغتصاب، وخاصة الفتاة، إذ أي تحرش تعرضت له تعتبر هي المسؤولة في أغلب الحالات.
أحيانا، ونحن نسلك الطرق الوطنية أو الفرعية، التي تشق كثيرا من الدواوير الصغيرة، في القرى القريبة من المدن، تأسرنا الطبيعة بسحرها، الذي يعطي للأمكنة عموما، وللمملكة بشكل أعم، فَرادتها، كبلد غني بتنوع المناخ والتضاريس. لكن ما يلفت الانتباه أكثر، أو الأحرى ما يحز في القلب، هو مشهد الأطفال الصغار، ذكورا وإناثا، وهم يشقون جنبات هذه الطرق، يحملون حقائب ثقيلة مكدسة بالمقررات المدرسية، تكاد تصل إلى نصف حجم التلميذ..
هؤلاء الأطفال، يقطعون، من أجل التمدرس، مشيا على الأقدام، مسافات طويلة، تطول وتقصر بحسب المسافة بين الدوار والمدرسة، والتي تتجاوز في عمومها ست أو سبع كيلومترات.
اللهم فئة قليلة من المحظوظات والمحظوظين (من 10 إلى 17 سنة) الذين يقطعون المسافة ذاتها، يوميا، عبر الدراجات الهوائية. في حين تظل بعض سيارات النقل المدرسي حكرا على أبناء علية القوم.
هذا الواقع يزداد قسوة عند الإناث خلال فصل الشتاء الذي تتهاطل فيه الأمطار بغزارة في بعض الأقاليم، والذي تتسبب العواصف الثلجية والرعدية في انقطاع بعض الطرق، بل وعزل قرى بأكملها. وهنا، أي من عمق هذه المعاناة، تتحمل الفتاة القروية ثقل قساوة المناخ، وفشل سياسة الحكومة في التنمية، وعجزها عن تأهيل البوادي بالحد الأدنى من البنى التحيتة… فتتخرج الفتاة في رحلة الشتاء إلى المدرسة من أجل التحصيل الدراسي، علها تحصل على نصيب من تعليم يظل في عمومه تحت المتوسط، بالنظر إلى حجم المخططات الإصلاحية التي يعرفها القطاع منذ عقود، دون نتيجة تذكر.
ولعل المعاناة ذاتها تتكرر عند الفتاة القروية خلال فصل الصيف، مع اختلاف بعض التفاصيل، ما يجعلها مناضلة بامتياز. وبالتالي، من أجل تقريب الصورة أكثر، يمكن أن نسرد مشهدا من هذه المعاناة التي تتحول فيها تلميذة تجاهد من أجل التمدرس إلى ضحية للتحرش أو الاعتداء الجنسي.
تصوروا، وهذا واقع حي، أن عددا من الفتيات يقفن يوميا بعد خروجهن من المدرسة أو في الطريق إليها عند جنبات الطريق، وهن يرفعن علامة “أوطوسطوب”.. في لحظة ما، توقف “بيدوفيل” يتخفى في صفة فاعل خير، وحمل فتاة على متن سيارته، من أجل تقريب المسافة إليها، أو لتصل في الوقت المناسب. فجأة انعطف عن الطريق، ودون شفقة، اعتدى عليها من أجل تصريف نزوته الحيوانية، فأصبحت عنوانا للطفولة المغتصبة… من خلال هذا المثل، يمكن أن نتصور حجم المعاناة والأعطاب النفسية العميقة، التي ستعيشها الفتاة طيلة حياتها، وهناك أمثلة بلا عد ولا حصر في هذا الصدد، ولعل حادثة “فتاة بوشان”، وصرختها “واش ما عنكش ختك”، مازالت تشكل جرحا لدى المغاربة الذين تضامنوا مع مأساتها…
إزاء هذا الواقع، وعلى امتداد زمن رحلة الشتاء والصيف، تعيش الفتاة القروية، وهي في طريقها إلى المدرسة، فوبيا الظلام في ساعات الصباح المبكر، بسبب زيادة الحكومة 60 دقيقة على التوقيت الرسمي للمملكة. ولعل الأخبار التي تطفو إلى سطح صفحات الجرائد الوطنية أو التي تتداولها المواقع الإلكترونية حول الجرائم التي تذهب ضحيتها التلميذات القرويات، دليل على قساوة الحياة المدرسية التي تعيشها فتاة البوادي في شتى الأقاليم المغربية.
وتشير بعض الدراسات والإحصائيات، إلى أن هذه المعاناة، ومسبباتها، عامل رئيسي في الهدر المدرسي عند الفتيات القرويات، إذ يضطر أولياؤهن إلى توقيف مسارهن الدراسي خلال مرحلة الابتدائي، بداعي بُعد المؤسسة التعليمية في “الفيلاج” عن الدوار، بينما تتجاوزها قليلات إلى مرحلتي الإعدادي والثانوي، ليتوقف المسار. إذ لا تصل إلى المرحلة الجامعة إلا بضع فتيات قرويات.
وإذا كانت هذه المعاناة سبب رئيسي في الهدر المدرسي، فإن هذا الأخير يتسبب للفتيات القرويات في عدد من المشاكل التي تطوّق حياتهن إلى الأبد. وبحسب بعض الدراسات والأبحاث التي قامت بها مكاتب دراسات معتمدة، فإن العزوف عن الدراسة عند الفتيات القرويات يعد مدخلا للزواج المبكر، أو ما يصطلح عليه بـ”زواج القاصرات”، الذي ترتفع نسبه في البوادي المغربية بسبب ضعف الترسانة القانونية التي تحمي الفتاة من “الزواج القسري”. ناهيك عما ينتج عنه من معاناة نفسية عميقة عند الفتاة التي تجد نفسها وسيلة للتسلية وصناعة المتعة، وإنتاج الأطفال، دون أي اعتبار لآدميتها، أو على الأقل مراعاة سِنها الصغيرة التي تحتاج للعب أكثر من أي شيء آخر.
لقد أثبتت تجارب الزواج القسري عند الفتيات القرويات، أن كثيرا منهن يتعرضن للعنف بسبب عدم التجاوب مع أزواجٍ هُم في أعمار آبائهن، في حين تتعرض بعضهن للاغتصاب الزوجي، وأخريات للطلاق.
ولتجاوز هذه الكبوات، ينبغي على الحكومة تأهيل العالم القروي بالوسائل الضرورية، التي تساعد على تنمية بشرية حقيقية، وتوفير أبسط الوسائل التي تمكن التلاميذ، ذكورا وإناثا من الذهاب إلى المدرسة في ظروف خالية من الاحتمالات المؤدية إلى تعرضهم إلى عذابات رحلتي الشتاء والصيف، ناهيك عن إعادة النظر في القوانين التي ترمي بالفتيات القاصرات في عش الزوجية غير المرغوب فيه..
ولكيْ يصل “الميساج” بصورة واضحة، أدعو كلا من وزيرة الأسرة والتضامن والمساواة والتنمية الاجتماعية، وزميلها في الحكومة وزير التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي إلى زيارة حقيقية للعالم القروي، حتى يتأتى لهما ملامسة واقع الفتيات هناك، ومعاناتهما مع التمدرس والزواج المبكر.. ساعتها، سيدرك الوزيران المعنى الحقيقي للمثل المغربي القائل: “سَوَّل المجرَّب لا تسول الطبيب”…
(*) فاعلة حقوقية ونسائية