مارسيل موس وإصلاح المنهج القرائي للشعائر التعبديّة

تحرير: ر. محمد .ر

مارسيل موسّ (1872 1950)، الأستاذ في جامعة (الكوليج دو فرانس) وعالِم الاجتماع والإناسي أو الأنثروبولوجي الفرنسي هو أحد الباحثين اللامعين في مجال تخصّصه، وهو ابن أخت عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم (1858 – 1917)، لكن ميول مارسيل موسّ سارت نحو الإناسية والنياسية أكثر، وأنتج كتابات عديدة لعلّ أبرزها أطروحته الجامعية عن الصّلاة (La prière) والتي لم يكملها، لكن ما كتبهُ فيها تمَّ جمعه تالياً، ونُشرت في كتاب يبدو في غاية الأهمية لما فيه من وعي منهجي واضح لدراسة الصّلاة من جوانب عدّة، لا سيما أن هذا الوعي أخذ بنظر الاعتبار مُجريات البحث الإناسي والنياسي.

وتجلى ذلك في كتابه (الصّلاة.. بحث في سوسيولوجيا الصّلاة) الذي صدر بالفرنسية في سنة 1968 بعد أن كان دُفع للنشر مطلع القرن العشرين [1909] لكن موسّ شخصياً أرجأ نشره فتأخّر لغاية سنة 1968 حتى أخذ طريقه للنشر باللغة العربية بترجمة “محمد الحاج سالم”، وصدر عن دار الكتاب الجديد المتحدة في لبنان سنة 2017، والكتاب يمثّل القسم المُنجز من أطروحة جامعية كتبها موسّ لم تكتمل جامعيًا.

النقديّة والاختلاف

يتوسّط الفصل الثاني هذا الكتاب، وجاء الى عنوان “تاريخيّة الصّلاة ومنهج دراستها” (ص 29 – 70). ولعمري أن له أهمية فائقة في تفكير مارسيل موسّ الأنثروبولوجي والإثنولوجي؛ بل لدى المعنيين بمثل هذه الحقول الدراسية، فهو يعرض فيه مفاصل رؤيته المنهجية بدراسة الصّلاة بحيث يُمكن وصفه بالجري؛ لكونه يتسم بالنقديّة وترسيخ الاختلاف في النظر إلى دراسة شعيرة الصّلاة ليس بوازع فقهي أو ديني؛ فمارسيل موسّ ليس برجل دِّين، ولا هو من أتباع الكنائس، ولا صديق للكهنة، إنما هو باحث سوسيولوجي ارتضى لنفسه أن يكون إناسياً نياسياً معاً لاعتقاده أنه بهذا المزج والتداخل الحقلي سيكون متفرّداً في الرؤية والمنهج الخاص بدراسة الصّلاة وغيرها من الموضوعات، فما هي طبيعة هذا التفرّد؟

يريد مارسيل موسّ أن يتميز بالنظر إلى الصّلاة كطقس (Liturgie) شعائري أو كونها طقساً دينياً (Liturgies)، وهو ما غاب عن جمهرة من الفيلولوجين، بينما غابت أيضاً دراسة الأنثروبولوجين عن الصّلاة بوصفها “أثراً حياً”، خصوصاً أن المؤرّخين غرقوا في الوصف بينما الأفضل للمؤرخ “البحث عن المبادئ أو القوانين”، فالمؤرّخ لا يدرس بعمق صلاة محدَّدة إنما “يكتفي بعرض أنظمة الدين”، كما أنه “لا يحدّد الأسباب بقدر ما يحدّد السوابق”، وهو “ما لا يرقى الى تشكُّل نظرية” إنما يبقى عمله مجرّد “مشاهد متشظية ومتفرقة وعرضية”، فمثلا يعتقد موسّ بأننا “لم نتعمّق في دراسة مسألة الصلوات والتعازيم البابليّة الآشورية إلا مؤخراً رغم أن الأسطوانات الطقسيّة les cylindres liturgiques تشكّل ربع الكتابات التي وصلتنا من هذه الحضارة..” الثرّة، لكنّه يؤكّد أن “التاريخ كان يقْنع بدراسة الوقائع دراسة خارجية”. أما “اللاهوتيون والفلاسفة فهم المنظِّرون الوحيدون للصلاة، أي إن نظرياتهم لا تزال بعيدة عن تلبية المتطلّبات العلمية”! وفي نقد مارسيل موسّ لهاتين الفئتين أهمية حقيقية…

سوسيولوجيا الصّلاة

بعد هذا النقد يتوجّه موسّ الى الجوانب السوسيولوجية للصلاة، وهنا يوجد عمقه النقدي؛ “فلم يخرج المنظِّرون عن دائرة العموميّات”، ذلك أن “الصّلاة في نظرهم ظاهرة فردية أساساً، وهي “شيء من دخيلة النفس، فهي من عمل الشخص الروحاني ومظهر لحالته الذهنية”. وهنا يميز موسّ في الصّلاة بين كونها كذلك وبين “تمثيلها”؛ ذلك أنّها “ملتقى الأسطورة والطقس معاً”؛ بل إن الصّلاة “وفي مُجملها تحمل طابع الكنيسة المنظِّمة للعقيدة والطقوس”، ولأن كل “عنصر في الصّلاة يلّخص تاريخاً طويلاً لا يمكن للوعي الفردي أن يتبيّه بصفة طبيعية”، فإن الصّلاة هي “جهود مُراكمة من قبل أجيال من البشر”. ولذلك يعتبر مارسيل موسّ الصّلاة “وفي المقام الأول ظاهرة اجتماعية لأن الطابع الاجتماعي للدين أمر مُبرهن عليه بما فيه الكفاية”، والفرد “لا يتكلّم في خلال صلاته إلاّ عن الأشياء المقدسة، أي: الأشياء الاجتماعية”، ويلاحظ موسّ بأنه “حتى في الصّلاة الذهنية يستسلم المسيحي إلى الروح القدس، وإن هذه الروح التي تهيمن عليه هي روح الكنيسة، والأفكار التي تضطرم فيه هي أفكار عقيدة طائفته، والمشاعر التي تنتابه هي أخلاقيّة فرقته”.

ولهذا يعتبر “الصّلاة اجتماعية ليس فقط بمضمونها؛ بل كذلك بشكلها؛ إذ إن أشكالها هي من أصل اجتماعي حصراً ولا وجود لها خارج العمل الطقسي”. وينتهي موسّ الى أن “كل صلاة هي خطاب طقسي معتمد من قبل مجتمع ديني مهما برزت الفردية فيها على أشدها”، ومهما تناسينا ظاهرة الصّلاة الجماعية، كما في الإسلام وغيرها من الديانات السماوية، فإن الصّلاة تبقى اجتماعية (phénomène collectif) وليست فرديّة (phénomène individuel) وحسب.

الدائرة الطقسيّة

وهذا يعني أن الصّلاة ورغم تحقُّقها في ذهن الفرد يبقى لها “وجوداً اجتماعياً خارج الفرد، أي داخل الدائرة الطقسيّة والتعاقد الديني”. وينظر مارسيل موسّ إلى الصّلاة باعتبارها واقعة (Fait)، وهو بذلك إنما يرتبط بروح مفاهيم العلم التجريبي، ويسعى إلى دراسة الواقعة في الصّلاة من داخل العمل الطقسي للصلاة لا النظر إليها في الزمن، ودراسة “مجمل المؤسسات الاجتماعية التي تنخرط ضمنها الواقعة” وليس الاستغراق في الشروحات والتفاسير والتأويلات بعيداً عن الصّلاة بوصفها واقعة، وهو ما يرتبط بالمنهج الذي يريد إرساءه مارسيل موسّ.

أما ما يتعلّق بالتفسير (l’explication) فهو عند موسّ “إنشاء نظام منطقي بين الوقائع بعد أن يتم تحديدها”.

ويرى بأن لا ينبغي لعالِم الاجتماع الذي يتناول الصّلاة “الاكتفاء بوصف كيفية الصّلاة عند هذا المجتمع أو ذاك؛ بل لا بد له من البحث عن الروابط les rapports التي تجمع الصّلاة والوقائع الأخرى التي تشترطها، إنه بناء تسلسل هرمي للمفاهيم التي يُنير بعضها البعض وتشكّل معاً نظرية في الصّلاة”.

ويوضح مارسيل موسّ هذا الجانب ليقترح إنشاء مفهوم إجرائي عبر تحليل عدد من الظواهر المنتقاة بدقة تعطينا صورة مُختزلة عن الواقعة المُراد تفسيرها”، ومن ثم “تفحّص كيفيّة تغيّر هذه الصيغة المختزلة حين نُدخل هذا أو ذاك من الأسباب التي يجب أن تتغيّر المؤسَّسة بمقتضاها، وبذلك يصبح لدينا نظام من الأفكار يتدرّج من الأكثر عموميّة إلى الأشد خصوصيّة”.

ومن أجل الوصول إلى بناء هرمي للمفاهيم يقترح الانطلاق من “أكثر الأشكال البدائيّة التي تظهر عليها الواقعة المستهدفة بالبحث تدريجياً نحو أشكال أكثر فأكثر تطوّراً، وبيان كيف تولّدت الأولى من الثانية” لكي نحصل على مفاهيم مترابطة هرميًا”. ويميل مارسيل موسّ إلى هذه المنهجية الثانية لكونها أكثر ملائمة لدراسة الصّلاة لأنّ التفسير الاختزالي يتجاهل تأريخ الواقعة. ولهذا يقول إن “للتفسير التكويني بعض المزايا فهو يتابع ترتيب الوقائع ويترك بالتالي مجالاً أقل للخطأ”، كما أن “وعينا بالوقائع يزداد حين نكون شهوداً على تخلّقها”. وهنا ميل صريح لعناصر المنهج الاستقرائي العلمي المتعلّق بالمشاهدة (Observation) عبر “مراجعة منهجيّة revue méthodique، ومنْهَجة أولية première systématisation للوقائع”.

ينتهي مارسيل موسّ في رؤيته المنهجية إلى القول: “إن التعريف الإجرائي la définition provisoire أو Définition initiale وحده هو ما يجب أن يكون موضوع بحث متفرّد لأنه يمثل الخطوة الأولى التي تتوقّف عليها الخطوات اللاحقة، ولكن بعد ذلك فإن كل أشكال النقد وجميع أساليب المُقارنة ستواكب عملنا وتتخلّله بصفة طبيعية”. ونلاحظ تصاعد الروح العلميّة لدى موسّ تلك التي لا تؤمن بالمنطلقات المسْبقة في البحث عندما يؤكّد قائلاً: “إن التمييزات المذكورة لا تمثل أطراً مُسبقة لعرضنا؛ بل تهدف إلى توضيح موقفنا وتسهيل ضبط ملاحظاتنا وافتراضاتنا”.

ولا شك أن الدراسات التالية على هذا الكتاب/ الأطروحة الجامعية لمارسيل موسّ تطوّرت ما يتعلّق بتطبيق هذه الرؤى المنهجية بحيث يمكن أن تكون أمثلةً حية نجحت في التأثير على الحقل الإناسي، بل والنياسي لما فيها من تجاور وتقارب ربما لنا عودة إليها في وقت لاحق.

Loading...