يوسف خليل السباعي
في البدء، قد يعتبر القارئ أن الأمر يتعلق بحادثات وقعت بمدينة تطوان، هذا ما يشير إليه عنوان العنوان لكن الأمر هو أكبر من ذلك. إن الأمر يتعلق بالكتاب الإشكالي “حادثات” INCIDENTES لرولان بارت، وهو كتاب خصب، لا سيما في الفصل الذي يحمل اسم العنوان، والذي يقدّم صورة مركّبة عن مجتمع منقسم ومتناقض.
يقول صبحي حديدي على الرغم من أنّ بارت ” لا يشير إلى الماضي الاستعماري مباشرة (ما خلا مرّة واحدة يتحدّث فيها عن( “الحماية”)، فإنّ الصفحة الأولى من ذلك الفصل تسجّل سخط فتى مغربي يتوعّد أوروبياً بالإنكليزية: Go home! وبعد سطرين فقط يظهر الفتى ذاته وهو يسير في جنازة، بل ويشارك في حمل النعش. ويصعب أن نستقبل هذا المستهلّ ببراءة تأويلية، خصوصاً إذْ يأتي من رجل اعتُبر سيّد النقد المعنيّ بالعلامة الباطنية في النصّ المبطّن. وفي وسع القارئ أن يستمدّ المعنى (السلبي أو الإيجابي، القدحي أو المدحي) الذي يشاء، دون حرج أو تثريب”.
ويمضي صبحي للحديث عن الأجزاء التالية من هذا الفصل، والتي تأخذ غالباً شكل وصف مشهدي وجيز، تتضمّن استعراض عدد من النماذج البشرية (الشرطيّ، وأستاذ الأدب الفرنسي الذي يقرأ مارسيل بروست وجاك لاكان، والمثلي، والشحاذ، والفيلسوف المجنون، …)، والأماكن المتباعدة (الرباط، طنجة، سلا، أصيلة، تطوان، مراكش، أكادير، المحمدية، …)، والطرائف، والوقائع السياحية.
ويقدم لنا هنا بعض الأمثلة :
ـ «وسط الجموع ثمة فتاة تقودها أمّها الفلاّحة. الفتاة تطلق الصرخات. الأمّ هادئة، عنيدة؛ إنها تستجمع شعر ابنتها مثل قطعة قماش وتواصل توجيه لطمات متواصلة إلى رأسها. رأي المدلّك: الأمّ على حقّ ــ ولكن لماذا؟ ــ لأنّ الابنة عاهرة (في الواقع لا علم له بشيء من هذا)».
— «بابا، إنكليزي عجوز فاتن وأبله، قرّر تعاطفاً إلغاء عشائه في شهر رمضان: تعاطفاً مع الفتية الصغار المختونين».
— «مصطفى واقع في غرام قبّعته الكاسكيت. لا يريد أن يفارقها عند ممارسة الوصال».
— «عليوة (اسم جميل يمكن تكراره بلا كلل) عنده غواية ارتداء البنطلونات البيضاء الناصعة (في أواخر الفصل)، ولكن بالنظر إلى عدم ملاءمة المكان، ثمة لطخة دائمة فوق هذا البياض الحليبي».
— «على شاطىء طنجة (عائلات، عمّات، فتيان)، وعمّال طاعنون في السنّ، مثل حشرات عتيقة تماماً وبطيئة تماماً، ينبشون الرمال».
— «بداية راسينية [نسبة إلى راسين]: مع تواطؤ ناعم: هل تراني؟ هل تريد ملامستي؟».
— «عبد اللطيف، الشبق للغاية، يبرّر سلفاً إعدامات بغداد. إنّ ذنب المتّهمين جليّ لأنّ المحاكمة كانت سريعة للغاية: هذا يعني أنّ القضية كانت واضحة. هنالك تناقض بين وحشية هذه الحماقة ونضارة جسده الدافىء، جاهزية يديه اللتين أواصل، منذهلاً بعض الشيء، الإمساك بهما وضغطهما أثناء انخراطه في إلقاء عقائده الإنتقامية».
ثم يصل أخيرا إلى القول: ” والحال أنّ صفحات «حادثات» مليئة بالتنافرات الثقافية (الغربي ضدّ المغربي، والمغربي المتغربن والبرجوازي الصغير ضدّ المغربي الفلاّح)، ويحدث غالباً أن يحفظ بارت النقد اللاذع للنماذج الغربية، ولكن على النحو الذي ينتهي إلى إجراء ما يشبه «السخرية التمييزية» إذا جاز القول، بحيث يبدو الغربيّ المثير للضحك أكثر احتراماً من المغربيّ المثير للشفقة”.
وهكذا يكون بارت شاهدا على حادثات بعينها، أو كما كتب في مذاكرة التي ترجمها حسين عجة : (الموت، الموت الحقيقي، هو حين يموت الشاهد نفسه. يقول شاتوبريان عن جدته وعمته : “قد أكون أنا الشخص الوحيد الذي يعرف بأن تلك المرأتين قد عاشتا” : نعم، لكن، لأنه كان قد كتب ذلك، أصبحنا نحن أيضاً نعرفه، بالقدر الذي ما نزال فيه نقرأ شاتوبريان).