يوسف خليل السباعي
لم يكن محمد يتوقع أن يجد نفسه داخل غرفة السجن مع عبد الواحد ومصطفى.
كانت مفاجأة بالنسبة إليه عندما اقتاده السجان عبد القادر، مساء، إلى نفس الغرفة.كان عبد الواحد ومصطفى قد بلغهما خبر ارتكاب محمد لجريمة شنيعة، كتبت عنها الصحافة.
كانت قطرات المطر بدأت تتساقط بتمهل. يراها الثلاثة من شباك نافذة صغيرة على جدار غرفة السجن. جلس محمد في ركن ضيق… ليس به سوى بطانية رقيقة وإناء فارغا… وبدأ ينظر باتجاه الخواء، كانت نظرته تخبئ سرا، لا يعرفه أحد، وفي نفس الوقت كانت نظرة عاتبة. وفي طرفة عين، وجد نفسه محاطا بعبد الواحد ومصطفى اللذين لم يصدقا خطورة الجرم الذي اقترفته يداه.
أدرك محمد أنه لن يفلت بسهولة من السؤال الأبدي، الذي سيظل يلاحقه مدى الحياة: “لماذا قتلت الأطفال الثلاثة؟”، سؤال لم يعد يحتمل سماعه، كان يطن في رأسه كمثل طنين ذبابة مزعجة، وكان يجعله لا يقدر على النوم، لاحقه طيلة أيام المحاكمة، وهاهو يلاحقه من قرنائه في غرفة السجن الكئيبة.
لم يجد محمد مهربا. هو الآن محاصر، وعليه أن يحكي حقيقة جريمته، التي لم يفهم كيف سيق لها، أوكيف أقدم على اقترافها.
كان المطر يشتد… قال: ” لم يكن ما أحصل عليه من مال من عملي بالبناء كافيا بالنسبة لي…ولهذا فكرت في سرقة بيت كنت أشتغل به… فبقيت أنتظر خروج الأب والأم من البيت إلى أن تحقق ذلك ذات يوم”، هاهنا توقف عن الكلام، كأنه نسي شيئا ما، وانتابته حالة رعب، وجحظت عيناه، وكاد يختنق، لكنه عاد إلى الكلام، بعد أن ساعده عبد الواحد بشربة ماء… ” آه… تذكرت أنني دخلت إلى البيت، ظنا أنني لن أجد أي أحد، كنت أعرف أين يخفي صاحب البيت أمواله، وما إن فكرت في الولوج إلى غرفة النوم، حتى سمعت حركة غير عادية، لمحت طفلة جميلة تجري، وأدركت أنها رأتني، فتبعتها، وأمسكت بها، وخوفا من الافتضاح خنقتها بمنديل كان فوق رأسها ولم أتركها إلا بعد أن خرج الدم من فمها”… عبد الواحد لم يرغب في سماع ذلك، وهو الأمر الذي أصاب الآخرين بالذهول. قال إنه يرغب في النوم. كان الليل قد هبط، والسجان عبد القادر يضرب بعصاه على القضبان الحديدية للغرفة ويأمر الثلاثة بالنوم، والتزام الصمت.
رأى عبد الواحد فيما يرى النائم أنه يتشاجر مع صديقه مراد كلما وقع حفل زفاف في قريتهم البعيدة. كانا يتشاجران بالأيدي، ولم يكن عبد الواحد، عاطل عن العمل، يستطيع أن يتغلب على خصمه الأبدي، وتتالت الشجارات، التي كانت تدور على مرأى من أصدقائه… من دون أن يتدخل أحد، رغم أن البعض منهم كان يتدخل لفك النزاع. وفي صباح باكر، نزل عبد الواحد إلى تطوان واتخذ له مكانا على كرسي حجري داخل حديقة خالية، بينما قام مراد بالالتجاء إلى بعض أصدقاء قريته لمساندته، ووقف الكل بنفس الحديقة لمتابعة العراك، بيد أن يد عبد الواحد كانت سريعة وغرز مدية كان يمسك بها في قلب مراد الذي سقط غارقا في بركة من الدم. نهض عبد الواحد مفزوعا مما شاهده في الحلم. وصرخ صرخة كبيرة اهتزت لها جدران غرفة السجن. كان ظمآنا، وجسده يرتعش برمته، ومن دون أن ينبس ببنت شفة، تكوم كقرد في ركنه، وغطى نفسه ببطانيته الرقيقة، ونام، كما لو أنه لا يريد أن يعرف أحد حقيقة ما اقترفت يداه.
في الصباح الباكر، نهض الثلاثة، تناولوا وجبة الإفطار العادية، وشرعوا تارة ينظرون إلى بعضهم البعض، وتارة أخرى إلى الجدار. كان المطر ينهمر بشدة أكثر، وأحسوا برطوبة، وببرد، لكنهم لم يبالوا، لقد اعتادوا على ذلك منذ دخولهم إلى السجن.
طلب مصطفى من محمد أن يكمل له حكاية جريمته التي كتبت عنها الصحافة، لكنه لم يكن قادرا على الكلام، بقي واقفا كالصنم، ولم ينبس ببنت شفة، أحس بالندم على ما اقترفت يداه، فهو ليس من صنف المجرمين الذين إذا أتيحت لهم فرصة قتل ضحاياهم لقتلوهم ثانية، لم يكن في قرار نفسه يريد قتل الطفلين الصغيرين، لكنه فعل، وخنقهما بنفس المنديل، الذي خنق به الطفلة الجميلة. قال محمد إنه لم يحتمل بكاءهما، وهكذا خنقهما. وبسرعة البرق، راح محمد ناحية الجدار، وبدأ يضرب رأسه به إلى أن امتلأ وجهه بالدم، وفي هذه اللحظة صرخ صرخة قوية، امتد صداها إلى خارج السجن، وإذا بالسجان عبد القادر يأتي على وجه السرعة، كما لو كان طائرا على جناح يمامة، وعصاه لا يفارقه البتة. لقد ظن عبد القادر أن عراكا نشب بغرفة السجن، لكنه تفاجأ ببركة من الدم تحيط بها، ولم يفعل شيئا، وظل يفكر لهنيهة، ثم قفل عائدا إلى مكانه الطبيعي دون أن يحرك ساكنا، تاركا محمد غارقا في دمه الذي لم يتوقف… وبقي على ذلك الحال إلى أن مات. بعد إخراجه من غرفة السجن، بقي مصطفى وعبد الواحد لمفردهما. مرت أيام وشهور وسنوات، وعبد الواحد يعاوده، كل ليلة، نفس الحلم، وفي صباح ليس ككل الأصباح، شنق نفسه بخيط حذائه الأسود، الذي احتفظ به عند دخوله السجن من دون أن ينتبه له أحد، حتى السجان عبد القادر لم يقدر على فهم ما جرى، وبقي حائرا… يتكلم لوحده كالأحمق.
آه…يامصطفى… لقد بقيت أنت وحدك الآن. لمن ستحكي إذا؟ لا أحد سيسمع حكايتك، أو سيحاول الإنصات لأسرارك، فجريمتك لم تكن عادية، لكنها كانت مؤلمة لك ولعشيقتك.
هبط الليل، وبقي مصطفى وحيدا داخل غرفة كئيبة. أصابته رعدة، وكان المطر ينهمر، هذه المرة، بشدة أكثر، وكان السجان عبد القادر يضرب بعصاه القضبان الحديدية، كأنه ينتقم من شبح ما، فطلب منه مصطفى أن يسمع حكايته، وعلى الرغم من أن عبد القادر لم يكن مغرما بالحكايات، إلا أنه رغب في سماع حكاية مصطفى، استئناسا فقط، ومضيعة للوقت…
قال مصطفى: “كنت أعمل، يا سيدي العزيز، في الشرطة، لم يمر على تعييني في تطوان سوى سنة واحدة. وخلال هذه السنة تعرفت على مليكة، أحببتها، لكنني ضقت من تصرفاتها، وتكرارها لكلامها عن التزوج بها، وهو أمر لم أكن أرغب فيه، كنت فقط أشبع رغباتي الجنسية منها، وفي ليلة من الليالي الشتوية الباردة، طلبت منها الرحيل إلى بلدها، والانفصال عني، لكنها ظلت ملتصقة بي، وأصبحت تهددني كل يوم، كنت أهرب منها، فتلاحقني في كل مكان. وفي ليلة أخرى، نشب عراك حاد بيننا فضربتها على رأسها بمسدسي، ففقدت الوعي، ظننت أنها لا تزال على قيد الحياة، لكنني عندما اقتربت منها كانت ميتة، فشرعت في تقطيع جثتها بسكينين كبيرين، مقطعا اليدين، فالرأس، ووضعت الأجزاء في أكياس بلاستيكية، خلا الوسط الذي وضعته في حقيبة سوداء، ثم تسللت ليلا، كان المطر يشتد، فألقيت الرأس في مكان على جوانب “الخرابة”، وأجزاء أخرى في سطحها، وذهبت لحال سبيلي”. كان السجان عبد القادر يستمع بذهول لما يرويه مصطفى، ويستمر بالضرب بعصاه على القضبان الحديدية، وبدأت عيناه تلمعان كعينا قط أسود. كان الظلام يغلف مساحة الغرفة، ولا ينبثق إلا نور طفيف من شباك النافذة الصغيرة، ولا صوت يسمع إلا صوت مصطفى، الذي استمر في الحكي:” كان لابد، ياسيدي العزيز، أن أضع ما تبقى من أجزاء القتيلة- العشيقة بنفس الحقيبة وأنطلق لمكان آخر بالقرب من الوادي والقي ببقية الجسد”… ومن دون أن يكمل كلامه، فتح السجان عبد القادر باب الغرفة الحديدي، وانهال عليه بالضرب بعصاه على رأسه حتى هشمه بالكامل، تاركا مصطفى غارقا في دمه.
في الصباح الباكر، كان المطر قد توقف… وعندما سألوا السجان عبد القادر عن سبب قتله لمصطفى، ظل صامتا، وبعد برهة تكلم، وقال: “إنني كنت أضرب بعصاي على قضبان حديدية، ليس غير”. وخوفا من الفضيحة، أدخلوا عبد القادر إلى مستشفى المجانين، ولم يسمع أحد عنه أي شيء بعد ذلك، حتى عندما كان يريد أن يحكي لمجنون حكايته، كان يضحك بعته… ويهرب منه بعيدا…بعيدا….