يوسف خليل السباعي
قطعنا مسافة غير قصيرة للوصول إلى البحر. الدروب ضيقة، والحوانيت ملتصقة بعضها ببعض كما هي الكراسي، المقاهي تكاد تكون خاوية. ثمة في الطريق بعض الحفر، والأتربة، والرمال، والآجر، وفي المدى الأوسع بنايات سكنية لمقتنصي الفرص أصحاب الملايين المكدسة في البنوك أو في البيوت التي تشم في جدرانها روائح تبييض الأموال أو المخدرات أو الإثراء غير المشروع، وبالقرب منا زجاجة هينيكين مكسورة، ورجل بثياب رثة يبحث في حاوية القمامة عن بقايا نتنة أخرجت من المنازل والحوانيت والمقاهي والمطاعم والسناكات والشوايات إلى آخره.
وفي القرب أكثر عمارات مستحدثة ذات التصاميم الهندسية البراقة التي تم السماح لها بالترخيص بأربعة طوابق لاغير.
ولا وجود إلا لنساء وأطفال يرتدون ملابس البحر. نساء مغطاة بملابس تركية الصنع يسبقن الريح القوية إلى البحر وأطفال يتحركون كالأقزام، وجوههم يتجمع عليها الذباب الذي أصبح يتسكع بكل حرية على الرؤوس والوجوه، وحتى على موائد الكؤوس العامرة وفي الشركات والإدارات إلى آخره.
أين ذهب الرجال؟!… بعضهم في المقاهي وآخرون في العمل، والباقي يتسكع أو يسبح في البحر…. آه… البحر ذلك الوحش الذي لايظهر حقيقته. لكنه لطيف. هادئ أحيانا، وهائج وثائر أحيانا أخرى.
البحر هناك. لا… الكورنيش.
قالت وردة، بعد أن وصلنا إلى الكورنيش:” من قبل كان هناك مارش أبيي”… وكانت هناك شركة بنت عمارات كالسفن، لكنها أفلست، وباعت بأثمان رخيصة”.
قلت لها:” أعرف تلك القصة. لقد ولى ذلك الزمن”.
الماضي قد يعود، لكن الحياة تستمر من الحاضر. الأثر كالكتاب المركون في الرف.
الكورنيش مبسوط. ولكن الشاطئ والبحر… يلتقيان مع الريح القوية التي تجر الرمال وتلسع العيون كالنحل برغم أني كنت أرتدي نظارة سوداء، لربما خضراء، وذلك بعمل الشمس حيث تحول العيون العسلية إلى خضراء، والنظارات السوداء إلى خضراء… وهذا ما جعلني أفكر في الذهاب إلى العشب الأخضر، إذ، تذكرت حينها أنني كتبت رواية “العشب الأخضر” لكنها لم تطبع، وبقيت منسية بين الكتب ( ماذا جرى لك أيها الكاتب لماذا تتدخل في قصتي؟!… غريب).
لم أودع البحر، وكانت وردة حينئذ ترمقني بنظرات حادة وملتهبة، ولم تنبس ببنت شفة، فقلت لها:” ذاك الغذاء الخفيف لا يمكن تناوله في الشاطئ”، وبعد أن انزعجنا من سطوة الريح ووحشيتها وأصبحت عيوننا تتحول من الأخضر إلى الرمادي، ألقينا نظرات خفيفة على جبل رأس الطرف ولم نتبادل أي حديث وسط ذرات الرمال التي كان يقذفها الريح على عيوننا كرصاص مسدس.
خرجنا من الشاطئ. الكورنيش… الكورنيش… مرة أخرى إزائنا… بيد أنه غير نظيف… أحيانا تنسحب رمال الشاطئ إلى جوانبه الخارجية كمثل رجل عجوز يلثم صبية.
كانت مقهى ركن الشاطئ التي نجلس فيها ونتناول الطاكو أحيانا أو نشرب القهوة بالحليب مفتوحة لنا… لكننا كنا نحمل غذاءنا الخفيف، وفضلنا تناوله على العشب…
أما ماذا أكلنا… فذلك سر يعرفه الكاتب الذي يحشر أنفه في كل شيء… لكنني رأيت أن ذاك العشب كان خلفه غابة.
فكرت وقلت في سري، دونما أن تعرف وردة ما أفكر فيه:” ذات يوم، سيمتلئ بالبنايات”. وتساءلت:” كيف سيقع ذلك؟… لا أدري”.
× اللوحة لبابلو بيكاسو