قصة قصيرة: مصنع سري للجن

(العنوان مستوحى من مقال للكاتب أحمد المديني)

يوسف خليل السباعي

بوجوههم المشوهة المجروحة، التي تحمل أخاديد، وبسكاكين في الأيدي، كانوا يرتدون ثيابا مهلهلة صفراء تكشف عن بطونهم المنتفخة كالجبال كأنهم طباخين يشعلون النيران في جوانب المطبخ، ولايعرفون ماذا يهيئون من أطعمة…

في أحد أركان مصنع سري كانوا يجمعون العاملات ويدوسون على أعناقهن بالأحذية الغليظة السميكة حتى يجعلون منهن عبيدا، ولايعرفون سوى الطاعة، والحفاظ على أسرار ما يفعلونه في المصنع من أساليب المراقبة والضغط و التجسس والجاذبية والاختفاء.

كان مصنع النسيج يوجد في حي سكني و لا أحد من الجيران يعرف ما يقع في داخله، وغالبا ما سمعوا صرخات على شكل عويل، وهذا العويل كاد يصل إلى سماء الله العالية الصافية والغامضة، ولم يكن الجيران يهتمون…، لأنهم لم يبحثوا قط في عمل المصنع، كما أن هدير ماكينات الخياطة، التي كانت تعمل بشكل منتظم ومتقطع كانت تزعجهم، كانت تغطي على سماعهم الصرخات التي كانت في لحظات الفتور، والإنهاك، تتحول إلى همهمات، وأصوات غرائبية لا يمكن أن تصدر إلا من الجن، وهذا ماكان يزعج الجيران، الذين كانوا يغضبون، إلا أنهم لايتحركون ولايفكرون في البحث عن ما يجري داخل المصنع.

الحق أن جيران المصنع كانوا يعرفون أن هناك عمل متسلسل، لكنهم كانوا يجهلون كيف يسير هذا العمل. وفي الحقيقة لم يجرؤ أحد من الجيران أن يتلصص على مايدور من أشياء بداخله.

كان المصنع ذا طابقين، طابق أول فوقي إداري، شاسع. به مكتب فخم للمدير مؤثث بجلود الغزلان الذي كان لايميط أبدا القناع عن وجهه، فقط يشع نور أحمر من عينيه كأنه محارب قديم خارج من نار جهنمية، ولا أحد يراه، حتى التابعين له الذين كانوا موسومين بذيول، ولايحملون أي إسم، ولم يكن المدير يحمل إسما، وكان يختفي لسنوات، ثم يظهر، ولايراه سوى تابعيه، الذين كانوا يحرسون العاملات ويحصونهم كل صباح عند الدخول، وكل مساء عند الخروج.

أما الطابق السفلي الثاني الخاص بالعاملات، فكان مخرجه مغلقا على الدوام، ومؤثث بماكينات الخياطة، حيث كانت هذه الماكينات ملتصقة ومتقاربة، ولا أثر فيه للتهوئة. هذا الطابق كان مشغلا للعاملات اللاتي يكدحن في صنع الثياب، التي كانت تتجمع وتنقل إلى مخزن كبير بالطابق الأول، في انتظار أوامر المدير لإخراجها بالليل وإدخالها إلى العربات التي تجرها الخيول السوداء تحت حراسة التابعين.

وفي ليلة من الليالي الباردة، وكان القمر الأحمر يشع وسط السماء، سقط ثوب فضي من يد تابع من وسط كومة الثياب دون أن ينتبه لذلك، لحظتئذن كان المدير يطل من نافذة المكتب، فغضب بشدة، وأمر بإحضاره مقيدا إلى المكتب، وحالما وصل، داس على عنقه بحذائه الغليظ، السميك، فاختفى ولم يعد له وجود. كان المدير قد استشعر الفضيحة التي كان سيسببها له التابع المهمل، ويفتح عليه الأعين، وهو الذي يعرف كيف يدبر الأعين ويخطط لذلك بمهارة خبرها منذ زمن سحيق، ومنذ ذلك الوقت، أصبح كل التابعين خائفين من أن يصيبهم أذى المدير، فحرصوا على تشديد المراقبة على بعضهم البعض.

ذات يوم، قالت عاملة رقم 5:” إنها رأت المدير صباحا يمر من أمام ماكينات الخياطة وهو يبحث عن شيء ما”. وهو الأمر الذي استغربت له باقي العاملات، إلا أن العاملة رقم 30 قالت:” الحق أقوله وليبتر لساني، إني سمعت ذات يوم أن المدير كان يقلد نباح كلب، وعندما اقتربت منه صار كلبا”… فضحكت العاملات، أما العاملة رقم 31، فقالت:” صحيح، رأيت ذات يوم معزة سوداء في طابقنا، وقلت إنها المدير”… فاستطالت ضحكات العاملات ووصلت إلى الطابق الفوقي، إلا أن المدير كان قد اختفى، لأن كبير الجن كان قد استدعاه لاجتماع ليلي لمناقشة عملية تصدير سرية لأعالي البحار السبع، ولا أحد بعد اليوم سيسمع عنها، وليس مسموحا الكلام عنها، وحتى إذا علم بذلك تابعوه والعاملات، فلن يسلموا من الحذاء الغليظ السميك للمدير .

كانت تحدث أشياء غريبة في المصنع كأن تحاول العاملة رقم 31 أن تتلمس طريقها إلى مكتب المدير لتعرف خريطة المصنع السرية باحثة عن مفتاح للخروج في حالة حدوث مكروه، والحوادث لايسلم منها أحد، ولكنها ضبطت من تابع وهي تصعد الدرجات بعد أن خيل لها أن لا أحد يحرس الطابق الفوقي، وعقابا لها حبسها المدير في حاوية قمامة، وبقيت هناك إلى أن اختفت، ولم يسأل عنها أحد.

وكما توقعت العاملة رقم 31 في معجم الحوادث في صباح يوم من الأيام المعتادة والمملة اشتدت غزارة المطر، فغمرت المياه الطابق السفلي المكتظ بالعاملات الذي لم يسمع صرخاتهن لا الجيران ولا الفراغ، وغرقن… ولم يأتي لنجدتهن أحد.

كان المدير قد أخرج كل الثياب، واختفى، أما تابعوه فلم يعرف أحد عنهم أي خبر…
كان مفتاح باب المصنع الغريب قد بقي معلقا في عنق المدير.

وإلى اليوم والبحث جار عنه، إلا أن أحد عمالقة الأخبار قال إنه رآه سائرا بين الظلال.

Loading...