يوسف خليل السباعي
“أصبحتُ صامتاً لأن لا أحد منهم يستطيع فهم حديثي، إنه لأمرٌ رهيب أن تلتزم الصمت، بينما لديك الكثير لتقوله”.
-نيتشه
^ في غرفتي الصغيرة مثل عش طائر، هكذا كنت أرى نيتشه، من زمن بعيد الغور، راقدا في سريره لايغادره. كانت شقيقته الوحيدة التي ترعاه. وفكرت بيني وبيني، وسألت:
– كيف لهذا الإنسان أن لاينهض من سريره، ويسير بتؤدة إلى مكتبه ويحلم بكتابه الأخير. ثم، تبادر إلى ذهني سؤال غريب:-
” هل حقا، قال نيتشه أو كتب كلمته الأخيرة؟.”…
ولم أدرك حقا، ماذا كان سيقول أو يكتب وهو في أواخر أيامه؟.”…
وزدت سؤالا من ذهني:
-” كيف له أن يكتب… وهو ساكن، صامت… يشكو من عدم الفهم”.
وهنا، وفي هذه اللحظة بالذات، أحسست بكتب نيتشه تتهاطل علي من سقف صلب، ومستقيم، لمكتبة تماثل مكتبة أمبرتو إيكو العريضة، الضخمة الممتلئة بكتب من أشكال وألوان وأطياف مختلفة ومن عوالم وأزمنة سحيقة.
كانت كتب نيتشه تتهاطل على الأرض، ثم ترتفع إلى السقف محاولة اختراقه، وأحسست، حينئذ، أن سقف الغرفة ينشق بشكل دائري ومستطيل ومتعرج، ولم أفهم شيئا؛ وأن الغرفة ترتج؛ وأبصرت زرادشت ينطق بكلام غير مفهوم، وألسن حمراء تشوبها ندف ثلج طفيفة تخرج من بين الشفتين تتحدث عن الإنسان، فارتعبت، وأمسكت بما تبقى من الكتب حتى لاتتهاطل من المكتبة. كانت المكتبة في البدء قبل حدوث الارتجاج تبلغ السقف ولم يكن الوصول إلى أي كتاب في القمة سهلا، وتذكرت السلم الذي كان يقف عليه أمبرتو إيكو حاملا الكتاب بين يديه، وهو يقرأ منه شذرات، قبل أن ينزل من فوق السلم. واعتبرت أن قراءة الكتب لم تكن سهلة، فهي تستوجب صعودا وهبوطا، وانزلاقا، وفكرت بيني وبيني للحظة، وسألت:-
” كيف كان أمبرتو إيكو يظل واقفا بثبات على السلم وفي يديه كتاب؟”
وسألت، أيضا:” كيف لم ينزلق به السلم ويفقد توازنه؟…”.
وتذكرت أنني في طفولتي كنت آتي بسلم لأصل إلى ” السهوا” حيث كتب أبي الخليل الفائضة المخبأة هناك، وأظل أتلمسها وأتحسسها وأقرأ البعض منها دون أن يراني أحد.
وفيما أنا أفكر في طفولتي، عدت لأفكر في كتب نيتشة، وكيف كتبها؟… وفي أي مكان، وماذا كلفته من أعصاب؟.. وهل كان راضيا عنها؟.
وفي هذه اللحظة، انبثقت موسيقى هادئة وجنائزية، أعادت الكتب إلى حضن المكتبة، وأعادت السقف كما كان في الأول، صلبا، ومستقيما، وأبصرت بتمعن صورة لنيتشه الصامت، وعندما تعمقت في تمعن الصورة انبجست من الصورة سحابة مظلمة حجبت ضوء غرفتي الصغيرة مثل عش طائر.