مصطفى بودغية
ليست مهمة الفلسفة الوحيدة “قراءة” العالم..تأويله..تفسيره..أو حتى تغييره فحسب.. بل مهمة الفلسفة أيضا هي قراءة “ذاتها”..وإعادة قراءتها باستمرار..إعادة قراءة نقدية لمفاهيمها وتصوراتها.. لأساليب تفكيرها..لأسسها..إن سيرورة “قراءة” الفلسفة للوجود هي في نفس الآن صيرورة قراءة الفلسفة لذاتها..ليس “البرج العالي” الذي يأويها سوى تلك المسافة التي تسمح لها بأن تكون بعيدة عن العالم وقريبة منه في آن واحد..ليست الفلسفة سوى “العالم” مقروءاً وقارئا..وهو يعبر عن تحولاته بلغة متجددة..
إن الفلسفة إذ ترتبط بالمعرفة العلمية.. ليس للبرهنة على صحة أطروحاتها السابقة من خلال استغلال النتائج العلمية الجديدة..وإنما لصياغة أطروحات جديدة.. وإعادة صياغة بعض مفاهيمها وتصوراته بمضامين جديدة..أو إحداث “قطيعة” معرفية مع بعض مفاهيمها وتصوراتها الأخرى.. ونحت مفاهيم مبتكرة جديدة قادرة على استيعاب المعرفة العلمية الجديدة.. وإحداث تحول عميق في النسق المعرفي العام..وتغيير جذري في أساليب التفكير الفلسفي خاصة وأساليب التفكير عامة..حين تنجح في إحداث “زوايا نظر” مبتكرة متنوعة ومتعددة..
إن ارتباط الفلسفة بصيرورة العلوم منذ نشأتها.. جعلها تستلهم منها الجنوح والتحليق بالخيال.. عبر خطاب عقلاني منفتح عابر للثقافات والحضارات.. نحو “الكونية” ضد التقوقع العقائدي العنيف..والتوجه نحو كل البشر على اختلاف عقائدهم وثقافاتهم وحضاراتهم..هذا الطموح الإنساني أكسبها قدرة على التجدد..بإثارة الأسئلة الجديدة التي لم تطرح أبداً من قبل ضد التحجر المعرفي القاتل..وهذا ما يجعلها تختلف اختلافا عميقا عن كل أنماط التفكير ذي البنية التجزيئية المحدودة..أو الموسوم بالبنية العقائدية المنغلقة داخل عقيدة واحدة معينة..