بقلم ؛ الدكتور محمد الأمين مشبال
أضحت كرة القدم اليوم جزءا لا يتجزأ من الحياة الانسانية اليومية باعتبارها نشاطا بدنيا وجزءا لايتجزأ من صناعة الترفيه، تستفيد من الثورة التكنولوجية ولوسائل التواصل الجماهيري التي جعلت من العالم قرية صغيرة على حد تعبير مارشال ماكلوهان. من هنا أصبحت البطولة الانجليزية او البطولة الاسبانية على سبيل المثال لا الحصر، تجذب مئات الملايين من المشاهدين في القارات الخمس، واصبح كبار اللاعبين يتقاضون أجورا خيالية وصفقات انتدابهم تحبس الأنفس،وذلك لكونها جزء لا يتجزأ من صناعة الفرجة والإشهار التي تدر ملايير الدولارات.
الوجه الآخر لهذا العشق الجنوني لكرة القدم يتجلى في كون وظيفتها تجاوزت وظيفتها الرياضية والترفيهية لتصبح إحدى أدوات تجسيد الهويات المحلية وترسيخ الانتماء للثقافات المحلية التي تصارع في مجموع بقاع العالم للحفاظ على خصوصياتها في وجه موجة التنميط (uniformisation) العاتية المرافقة للعولمة التي تحاول فرض نموذجها الوحيد والأوحد،ناهيك عن كون كرة القدم أصبحت توفرلفئات هامشية داخل المجتمع إمكانية إثبات ذاتها في مجتمع تتلاشى فيه قيم التآزر والتواصل داخله.
من هنا لما تتزين شوارع مدينة مثل تطوان بلون قميص فريقها (الأحمر والأبيض)، ويقطع أزيد من عشرون ألف شخص مسافات طويلة ومرهقة ومكلفة لتشجيع فريق المدينة،(كما سجل جمهور المغرب التطواني رقما وطنيا قياسيا حينما انتقل حوالي 35 ألف متفرج الى ملعب فتح بالرباط ليحسم لقب البطولة في موسم 2011-2012 ) فإنهم ومن دون شك يؤكدون ،كما بالأمس لما ارتدوا الشاشية الجبلية باعتبارها أحد رموز الهوية الثقافية للمنطقة والتي تتمازج وتتناغم مع المكونات الاخرى للهوية الوطنية.
لقد مضى وانقضى زمن كانت تنظر فيها بعض النخب المثقفة التقدمية بريبة إلى كرة القدم ولمكانتها الفريدة في قلوب ملايين متتبعيها، معتبرة أنها تساهم في “إلهاء الجماهير” عن النضال الواجب خوضه في سبيل انتزاع حقوقها السياسية والاقتصادية.
من دون شك كان لبعض الوقائع التاريخية إسهام في تغذية تلك التوجسات، واعتبارها أفيونا جديدا للشعوب ،على حد قولة ماركس الشهيرة، إذ كانت تعمد بعض الأنظمة السياسية الديكتاتورية إلى تلميع صورتها أمام شعوبها وأنظار العالم من خلال بعض الانجازات الرياضية كما كان الشأن في إيطاليا الفاشية عهد موسوليني حينما فازت بكأس العالم المنظمة في إيطاليا سنة 1934، في ظروف تحكيمية أقل ما يقال عنها أنها كانت مريبة، وأعادت الظفر بكأس العالم سنة 1938 في فرنسا،حيث كان اللاعبون يبدؤون وينهون كل مقابلة بصرخة “تحيا إيطاليا” وبتحية الجمهور عبر بسط راحاتهم المرفوعة. نفس السياسة انتهجتها أنظمة ديكتاتورية أخرى مثل إسبانيا إبان عهد فرانكو، أو حكم الجنرالات بالأرجنتين ،التي كلفها الفوز بكأس العالم سنة 1978زهاء مليار دولار في بلد كان يعيش تحت وطأة تضخم اقتصادي هائل وقمع وتعذيب واغتيال الألاف من مواطنيه، إلى غير ذلك من الأمثلة التاريخية.
فبغض النظر عن كل الجوانب المحيطة بلعبة كرة القدم ماضيا وحاضرا، فإنها أصبحت جزءا لا يتجزأ من خبزنا اليومي وتساهم في خلق متعة وبهجة فريدة من مباهج الحياة، وختاما أقول هنيئا للمغرب التطواني بجمهوره العريض ومع الأمل الدائم في إنجازات تليق بالتاريخ الحافل لهاته المدينة العريقة.