أمانديس تهنئة

الطفل ودرس الفلسفة

بقلم : أيوب بولعيون

لقد جُبل الإنسان في حداثة سنه، أي في طفولته؛ على حس تساؤلي كبير و طبعٍ سليم لم تفسده ثقافة “الاعتياد و الاجترار” بعد. طبع يستكشف العالم وجميع ما يحيط به بشغف مثير مستفز. فهو دائما -عكس الكبار- يصابُ بالدهشة إزاء ما يبصر بعينيه ويسمع بأذنيه ويستشعر بحواسه كلها. فالطفل الصغير لا يعرف بعد أن يمر على طبيعة الأشياء مرور الكرام، أن يتركها دون أن يلتقطها بدهشة الفلاسفة، ويحاول جذب انتباه الآخرين إلى ما يراه جديدا ومثيرا غير مألوف، أو مادة حيوية يتلمسها بيديه؛ كأن يرى مثلا سرب طيور في الأعالي أو زهرة صفراء تحوم حولها نحلة تمص رحيقها، أو عشبا أخضر يفترش الأرض، أو سحابا كثيفا تداعبه الرياح، أو نملة تشتغل بجدية و صمت دون ضجيج… وغيرها من أمثله تستحوذ على خيال الطفل و فضوله المعرفي الفتي. في مقابل كل هذه المشاهد الماتعة و اللحظات النادرة في حياة الإنسان كلها، لا يبالي الكبار “برؤية الصغار” للعالم و مادته قيد أنملة؛ فهم منهكون بتعب الوظيفة و هم الخبز، غارقون إما في قلق الغد أو مصيدة الماضي، غير قادرين على عيش اللحظة كفن يحتاج لفلسفة، يتقنه الصغار ببراعة!

حري بنا في هذا المقام أن نتساءل بجدية : ما الذي يصيب هؤلاء الأطفال الصغار الشغوفين بعد أن يصيروا كبارا؟ ما سبب انطفاء حس التساؤل لديهم؟ هل هي جريمة الطبيعة أم الثقافة؟ و ما علاقة الطفل الصغير بدرس الفلسفة؟

إن للمجتمع سلطة ثقافية تتشاركها جميع المؤسسات والنظم الاجتماعية، سلطة لتوجيه الأفراد نحو تفكير نمطي وذلك عبر قوالب ثقافية جاهزة ومطبوخة. فالفرد يفقد فرادته وذاته التي كان يتمتع بها في طفولته وينصهر لاشعوريا وسط المجتمع الذي لم يختره بإرادته ولم يختر ما يشكله من توجهات وعقائد وسياسات وبرامج… تميزه عن المجتمعات الأخرى. فالمجتمع هنا يجيّش جميع مؤسساته الوفية لصناعة “المواطن” الذي يريده، ينتقي له الاراء و المواقف والاتجاهات والعقيدة والأذواق… وكل ما بإمكانه أن ينتزع الفرادة منه ليصير من بين العشرات من أشباهه. وقتئذ تخبو شعلة الفرد ليجد نفسه عاجزا ومنقادا بإرادة المجتمع نحو حياة لم يخترها هو. ومن ضمن هذه المؤسسات المساهمة في خدمة المجتمع وأغراضه المدرسة. فهي الحضن الأول للأطفال الصغار المتقدة عقولهم، وفيها يُسلخون ويبرمجون وفق ما يفتيه المجتمع، وبين أسوارها تفقد الكثير من الأشياء والمعاني ألقها وجاذبيتها بسبب آلية “التكرار المدرسي “.

**

إن لثقافة المجتمع الدور الرئيسي في تنميط الأفراد وصناعتهم في قوالب جاهزة، يغدو المرء داخلها يرى الأشياء من منظار محدد مسبقا، ويصبح التفكير يتخذ بُعدا جماعيا تفرضه المؤسسات والتنظيمات والأحزاب… التي تقدم ولاءها التام للمجتمع و سلطته القائمة، فالأخير يسعى -بلغة صريحة- كشخصية اعتبارية بجميع مكوناته، لترويض الأفراد بدل تربيتهم؛ فالأول يستهدف الغرائز وذلك في جو من الرتابة والجمود والاجترار والتكرارية. فهو إذن -أي الترويض- يراهن على التحكم والسيطرة على “المروَّض” مما يسهل على المتحكم التحشيد والتوجيه وإثارة عواطف الجموع الخاضعين؛ أما التربية فهي تراهن على تنمية إنسان مستقل مبدع قادر على التفكير والابتكار، فهي بهذا المعنى تعني ضربا من ضروب الحفاظ على حرية الإنسان كقيمة نفيسة في الحياة.

**

إزاء كل هذا “القمع” المجتمعي الممارس على الأفراد، بكل الآليات المتاحة والممكنة، تحت شعارات التربية والتهذيب، يغدو من الضروري الحديث عن “شبح الفلسفة” لاقتحام كواليس “صناعة القوالب” بالسؤال والشك المنهجي. الفلسفة كبحث دؤوب مشاغب عن العناصر المركبة وقراءة نقدية لكل العناوين والشعارات والمواد المقدّمة المطبوخة. الفلسفة كتفكير عنيد بتعبير راسل، وبنت للدهشة حسب أرسطو؛ هي أقرب للأطفال الصغار منها للكبار، لأن الفلسفة تتجاوز سطحية المألوف والإعتياد و تعودنا أن لا نعتاد أي شيء، بل أن نرى جميع الظواهر والأشياء بدهشة الأطفال وفضولهم. أن لا نفوِّت فرصة لطرح السؤال والاستفسار.

يبدو من الواضح جدا سبب الهجوم الشرس على هذه “الغولة” المُربكة / الفلسفة باسم الكهنوت و “تجريم” السؤال، لأنه كفر وزندقة وخروج عن القوانين الزاجرة. فالمرء يولد على الفطرة، فيلسوف بالطبع، سليم العقل والحس؛ ثم تجعله التنشئة الاجتماعية والثقافية غبيا سطحيا يستسلم للفتاوى الصادرة والأفكار الموروثة. قال أحد الفلاسفة الروس : “ما أعجب هذا العالم المليء بالكبار الحمقى والعباقرة الصغار!”.

 

 

Loading...