ظاهرة الهشاشة النفسية

بقلم: أيوب بولعيون.

يعتبر كتاب : “الهشاشة النفسية، لماذا أصبحنا أضعف وأكثر عرضة للكسر؟” من الكتب القيمة والجديرة بالقراءة والتأمل، لأنه ببساطة يعكس مرايا ذواتنا الفردية والجمعية، ويشخص مشكلة حقيقية ضاربة بجذورها في كيان الاجيال الجديدة وفي روح عصر سائل هش فقد كل معاني الصلابة والتماسك التي تستلزمها طبيعة الحياة. هي مشكلة الإنسان النابعة من نمط التربية بالأساس، بحيث يتحطم و ينهار بأية كلمة في موضع النقد أو نزاع عابر، وبأي موقف يومي عادي تفرضه تسلسل الأحداث، أو أية تجربة حياتية في علاقاته العاطفية أو المهنية أو الاجتماعية… إنسان فارغ من الداخل لا يملك قدرة التحمل و الصبر و المرونة، ضيق المنظور، يدعو للسعادة المثالية و الراحة النفسية دائما، يمجد الذات و المشاعر، يخشى من الألم و المسؤوليات، يستنجد في كل مرة يحس فيها بالحزن كشعور طبيعي يلازم دورة الحياة بالطبيب النفسي و العقاقير و العلاج الفوري مؤديا بذلك دور الضحية، ناسيا أو متناسيا طبيعة الحياة الواقعية البعيدة عن الأوهام و الدلال المفرط الذي لا ينتج إلا ضعاف النفوس، هؤلاء الذين تقتات على ضعفهم النفسي و الفكري الكثير من المؤسسات التجارية . هو ذا الموضوع المحوري للكتاب.

الكتاب لصاحبه اسماعيل عرفة، صيدلي ومؤلف مصري له عدة تقارير منشورة، يعمل كباحث و مترجم له أربعة كتب تندرج ضمن مجالات مختلفة، علم النفس والفلسفة والمنطق.

الكتاب الذي بين ايدينا صدر عام 2020، من منشورات مركز دلائل ،يقع على طول 200 صفحة و ثمانية فصول تعالج و تقارب مشكلة نفسية بالأساس من عدة جوانب و تقدم إضاءات مهمة للتعرف عليها و معرفة أعراضها ومظاهرها وأسبابها قصد فهمها ومحاولة التخفيف منها و تجاوزها بالتوعية وتغيير الأفكار و الرؤى وأساليب التربية.

يمكن تقديم قراءات مختصرة للفصول على النحو التالي :

الفصل الأول : يستهل الكاتب هذا الفصل ببعض ردود الفعل إزاء بعض الوقائع والمواقف الحياتية العادية التي تعكس مدى هشاشة جيل رقائق الثلج على حد وصف بعض المحللين، ردود تبين غياب الصلابة و المرونة في مقابل تهويل و تضخيم أي شيء فيما يسمى بعلم النفس ب pain catastrophizing، هم جيل لم يتمرسوا على المسؤوليات والصعاب منذ طفولتهم و يُنظر إليهم دائما أنهم في حاجة إلى رعاية مفرطة و حماية من أي ضرر يهددهم! ما جعلهم عرضة للكسر والدمار، فهي إذن مسألة تربية كما يؤكد المؤلف، يشارك فيها الكبار الذين لا يحسنون رعاية أبنائهم بالوسطية و الاعتدال. مبينا دعوة الشريعة الاسلامية إلى الشجاعة والتحلي بالصبر و المرونة في مواجهة عقبات الحياة لأداء الرسالة.

**

الفصل الثاني : حول موضوع الهوس بالطب النفسي واعتباره الطريق الوحيد و الملجأ والمنقِذ لاعادة الحياة و التوازن لكل من باغته حزن أو ألم أو موجة سلبية عابرة، كرد طبيعي لتجارب الحياة و صدماتها المتتابعة ، معتبرا ذلك ثقافة عامة خطيرة تكتسح المجتمعات وليست حالة فردية استثنائية. هو هروب جماعي تراجيدي إلى العقاقير و الأدوية بحثا عن الراحة العاجلة و نسيان أنجع الوسائل للتشافي (الزمن ، الأصدقاء ،التنزه.. العمل، الصبر…). مع تحديد الكاتب لترسانة من المفاهيم التي تحتاج للتعريف والتوضيح “كالصدمة و الحزن والاكتئاب، السواء النفسي، الصحة النفسية،” ومحاولة وضع حدود فاصلة بين ما هو عادي طبيعي وما هو خطير يستدعي التدخل العلاجي، رغم وجود صعوبات أثناء هذه العملية خصوصا بين مفهومي السواء النفسي والاضطراب النفسي كما أكد بذلك الن فرانسيسكو. دون أن ينسى الكاتب دور شركات الأدوية في ترويج الأمراض و حلولها السريعة، خدمة لغرضها التجاري الربحي المحض ضاربة عرض الحائط القيم والأخلاق و حرمة الإنسان.

**

الفصل الثالث : يعالج الكاتب في هذا الفصل إشكالية الفراغ العاطفي الذي يعني في إحدى صوره الخفية الصادمة ضياع الغاية والمعنى و خواء قيمي معرفي، يُترجم إلى هشاشة داخلية تجعل صاحبها قلقاً، في احتياج دائم للتعلق بالأشياء والأشخاص، موهما نفسه “بحب سائل “بلغة زيغمونت باومان و مشاعر درامية من نسج خياله، فراغ يزيد من حدته الأفلام والروايات والشرود ليولِّد إنسانا لا يفكر إلا في “الفراغ” مُشكلته المستعصية، مستنجدا بكل ما يمكنه أن يسد به هذا العدم المخيف، هذا دون أن يكلف نفسه عناء التساؤل عن أسباب الفراغ والضياع الحقيقية، التي يذكر منها الكاتب : غياب الدفء الأسري، ضعف العلاقة مع الله سبحانه وتعالى، ضعف تقدير المرء لنفسه وقيمته، البطالة وغياب العمل، ضعف معرفة الإنسان بنفسه وما عليه من واجبات، غياب الثقة في إمكانيات الفرد و مهاراته، العزلة والانسحاب من المجتمع و الاستغراق في علاقات تتحكم فيا أزرار إلكترونية بدل علاقات واقعية صحية أساسها الأخذ و العطاء والتعاون.

كما أشار المؤلف إلى ظاهرة المتاجرة بهذا الفراغ والجوع المستبد بالشباب تحت يد أشخاص أطلقوا على أنفسهم خبراء العلاقات ومدربو التنمية البشرية والصحة النفسية، اعتمادا على مهاراتهم في رص الكلمات وتقديم نصائح عامة بدهية في كل مناسبة بدون ملل، بأسلوب جذاب ، يجعل منها سلعة غالية جدا يُدفع عليها النقود ويعلق عليها آمال الخلاص.

**

الفصل الرابع : خصص الكاتب هذا الجزء للحديث عن مدى تأثير السوشال ميديا على حياة الإنسان، باعتبارها أصل الشرور والمصائب التي تعزز هشاشتنا النفسية موضحا ذلك في خمس نقاط، نذكرها كالتالي :

-تعزيز النرجسية : وذلك من خلال المواقع التي تشكل مرآة تعكس وجوهنا ونعلق عليها أماني التقدير و الإعجاب عبر نشر الصور وانتظار الجمجمات والمشاركات، (انستغرام، فايسبوك، المنتديات، تويتر..) إلى جانب ظاهرة السيلفي كنقلة نوعية في تاريخ النرجسية حسب الفيلسوفة الزا جودار، فالكل يدور في فلك “الأنا “. ولا أحد يهتم بالآخرين و القضايا الكبرى.

* تقديس التغيير : وذلك باعتبار التغيير غاية وليس وسيلة للترقي والتكامل و إثراء حياة الفرد، حيث أصبح الإنسان مهووسا بهاجس “الجديد”، في كل دقيقة وساعة، كل شيء لا يرضيه،لا يريحه وهو ما تعززه الاشهارات والإعلانات التجارية. ما يضيع قيمة الالتزام واستثمار ما هو موجود في حياتنا بعيدا عن اللهاث وراء كل اندفاع عاطفي تحت ذريعة التغيير للأفضل!

* ضياع التركيز : إحدى الآثار السيئة لهذه السرعة و الرغبة في التغيير في كل وقت، فالتشتت الذي تحدثه فينا هذه الأجهزة الذكية تفقدنا مساحات التأمل الذاتي والتفكر في هويتنا ومشاكلنا وطموحاتنا وأخطائنا ،مشاعرنا…. َوبالتالي عدم معرفتنا العميقة بذواتنا، في مقابل سيادة القلق والضغط و استهلاك طاقة الانتباه بالملهيات التي لا تنتهي.

* معايير وهمية : تفرغ الكاتب لابراز مدى تأثير السوشل ميديا من ترويج معايير خاطئة للنجاح عند الناس، مرتبطة بمدى حصد المتابعين وارتفاع نسبة المشاركة و التعليقات والتفاعلات الايموجية، وهو ما يجانب فلسفة النجاح المرتبطة بواقع الحياة الذي يحتضن عدة متغيرات من فرد لآخر تحكم مستوى النجاح المنشود.

* أفكار من ورق: هي أفكار ينتجها هذا الكائن البلاستيكي، الذي فقد هويته أمام هذه النزعة في كسب الآخرين و محاباتهم و إثارة اعجابهم للظهور بصورة مقبولة على حساب الوجود الذاتي ، خوف من الحظر و فقدان اللايكات و الجمهور العريض المساند، هي أمور تصنع نوعا من التماهي والتكيف مع أي موقف أو فكرة او حدث اجتماعي، لغة عامة مراوغة تمنع صاحبها من التعبير عن موقفه وشعوره و رأيه الحقيقي، و هكذا تضيع الكثير من القيم في أزقة إرضاء الآخرين!.

**

الفصل الخامس : ينتقد الكاتب عقلية تعزيز اللاحكم السائدة في عصر الفردانية و التسيب الأخلاقي تحت شعارات :”اهتم بنفسك واتركني افعل ما يروق لي، أنا حر، دع الناس تفعل ما تريد … ” وغيرها من اقاويل تنم عن غياب القابلية للانصات ومواجهة الذات، مشيرا إلى خطورة هذه الثقافة المدمرة التي تنتهك الحدود و تُفقد البوصلة الأخلاقية، مؤكدا أن التقييم هو من خصائص الطبيعة البشرية وغياب النصيحة والتوجيه سيحول دون تحقيق حياة إنسانية منضبطة تنشد الخير و الفضيلة وتستقذر الشر والرذيلة. فما يصدره الآخر عنا من ملاحظات أو أحكام؛ قد تكون حقائق في شخصياتنا، وجب أخذها بعين الاعتبار لقراءة ذواتنا قصد تصويبها و تطويرها بما يوافق الطبيعة الإنسانية السوية. وأوضح الكاتب ضرورة التمييز بين إصدار الأحكام الصائبة وإسداء النصيحة و النهي عن المنكر وبين إقصاء الآخرين و تحقيرهم بأساليب لا أخلاقية ما يجعلها فضيحة تنفر الآخرين بدل نفعهم.

**

الفصل السادس : يتفرغ الكاتب تماشيا مع ظاهرة الهشاشة للحديث حول سطوة المشاعر على حياة الإنسان، هذا الأخير المغلوب الذي أصبح عبدا لمشاعره المتقلبة المتدفقة والقصيرة الأمد، مشاعر أضحت “أصناما” تُعبد وتُتبع، تملي على صاحبها التوجيهات التي لا تقود إلى أية وجهة!. إنها أيديولوجيا فتاكة يتم استثمارها على أكثر من مستوى : اشهاري، سياسي ،اقتصادي، طبي، لجني الأرباح و تطويع الإنسان مع علم مسبق أن أهم مدخل للتحكم في الإنسان وتنويمه هو تأجيج مشاعره والرفع من وتيرتها، فالافلام السينمائية والمسلسلات يتم صياغتها انطلاقا من هذه المادة الحيوية (المشاعر)، و يتم الانتقال من شعور لآخر بشكل فجائي خطير ما يخلق إنسانا متقلبا لا يستقر له حال، يبحث دوما عن موقد تشتعل عليه أحاسيسه (صورة فايسبوكية، ايموجي، برنامج صراحة…) وهذا الهوس بما يحقق لنا متعة عابرة لحظية يؤثر تأثيرات سلبية على العلاقات البعيدة الأمد و كل ما يقتضي الصبر والتحمل (الزواج كميثاق غليظ نموذجا)

**

الفصل السابع : استمرارا في النقد لأجل توعية القارئ بمخاطر غياب العقل و الحكمة يسلط الضوء على “مخدرات الشغف” باعتباره الوتر الذي يعزف عليه كل من يرتدي عباءة المحفز والمدرب/الكوتش بعنوان “اتبع شغفك وحقق كل ما تريد، انهض الآن! “. هذا المنطق العاطفي هو ما لا يتوافق مع منطق الواقع كما يقرر الكاتب اسماعيل عرفة، فهو لا يأخذ شروط و إمكانيات الأفراد المختلفة و عقبات الواقع و ضرورة تقديم الأولويات على الثانويات إلى غيرها من مستلزمات النجاح الحقيقي بعيدا عن الخطابات التحفيزية الكاذبة التي تجعل من الشغف كشعور عاطفي داخلي شرطا أساسيا للنجاح في الحياة. هي بروباغاندا خطيرة تصنع الفشل في نفوس الشباب، لأنها تشوه قيمة العمل الحقيقي وتبتذل النجاح معتبرة إياه عصفورا يمكن الإمساك به إذا تابعته بشغف! مقابل هذا يقدم الكاتب نموذج ايكيجاي الياباني لتحقيق التوازن الداخلي وضمان العيش.

**

الفصل الثامن : في الفصل الأخير يطلعنا الكاتب على مفتاح النجاة والهروب الماكر لهذا الإنسان اللامسؤول، الذي يعلق تصرفاته وسلوكاته وجرائمه البشعة على عمود هش وتحت مسميات “المرض النفسي والاضطراب النفسي، الظروف القاسية،…” وما شابه ذلك، وهي مصطلحات فضفاضة غير دقيقة، ما يؤدي إلى التساهل شيئا فشيئا مع الذنب والجريمة والتماهي مع الشر، بالتالي بزوغ بعض الظواهر الشاذة والغريبة من قبيل” التعاطف الجماهيري الرهيب مع المجرم والشرير” و”الهجوم على الحكم والمحاكمة “الدفاع عن المذنب المغلوب على أمره!، دعوات لرفع التهمة بعد “تفهم”! حالة هذا المجرم، ما يخلق “إنسانا جديدا” فقد بوصلته الأخلاقية و ارتمى لاشعوريا في حضن إيديولوجيا يتم ترويجها عبر الأفلام الغربية بذكاء، بحيث يتم دفع المشاهدين خطوة، خطوة عبر مسار الفيلم للتعاطف مع المجرم والشفقة عليه بعد معرفة ظروفه: طفولته، وضعه الاجتماعي والاقتصادي الأسري، حالته النفسية. (فيلم الجوكر 2019 نموذجا)، وفوق هذا تعدى تقديس هذه الهشاشة النفسية والإنصياع لها إلى اتخاذ مواقف إلحادية خطيرة يسوقها الكاتب. في نهاية الفصل يوضح المؤلف الحالات الاستثنائية التي ترفع فيها المسؤولية عن الإنسان من وجهة نظر الشرع، وهي حالات محددة منطقية وليست تابعات للهوى والمزاج.

فالإنسان محاسب كما تؤكد القاعدة والعقل مناط التكليف والمسؤولية، هو ذا الأصل في المجتمع البشري والإنساني.

وللإشارة فإن المؤلف على طول الكتاب ظل يقتبس الأفكار من مختلف الكتب والمراجع لشتى المفكرين والعلماء من مختلف المجالات والأزمنة الذين كتبوا و تركوا الأثر ونذكر على سبيل المثال أبو حامد الغزالي، زيجمونت باومان ،ابن القيم، ألان دو بوتون، ابن قدامة، الزا جودار، فيكتور فرانكل ،ابن حزم، غوستاف لوبون … وغيرهم كثير إلى جانب مراجع أخرى كثيرة باللغة الأجنبية أضاءت الكتاب من جوانب عدة، ما جعل الكتاب غنيا يضفي عليه مصداقية الطرح وخصوبة الموضوع.

الكتاب هو إضافة ثمينة نوعية لمكتبتنا العربية، لما تطرق له بالنقد الجريء والمساءلة لكثير من أمور تبدو وكأنها عادية جدا تتماشى مع طبيعة عصر تتقلب فيه المفاهيم والتصورات ويتوارى فيه الإنسان مقابل بزوغ كائن آخر من صنع عصر الهشاشة والسيولة والفردانية المتوحشة.

هو كتاب يستحق أن يقرأ من الجميع و تعاد قراءته من جديد لأنه ببساطة ينبهنا إلى خطورة الطريق و يدعونا كافة أن نعيد التفكير فيما يجري هنا.

شكرا لاسماعيل عرفة على الكتاب القيم، وهذه القراءة السريعة لن تفي الكتاب حقه ولن تحيط بجميع الأفكار والجوانب.

 

 

 

Loading...