ليلة البوح بالخبايا

الكاتبة: سكينة الفالحي

تمنحك التجربة دروسًا تلتقطها الذاكرة كأحاسيس. وهذا ما يعقد المواقف المشابهة فيما بعد، إذ أنك لن تتعامل معها من ذاكرة تجربتك بل من ذاكرة شعورك. وهو أمر تلقائي؛ فإذا لم تنتبه له فورًا، قد تحصل على نتيجة سابقة لم تكن ترضيك، ويجعل منك فريسة للتساؤل الصعب: لماذا أكرر نفس الأخطاء؟

الحياة، بمنظورها، تعتبرنا لعبة تسير بنا يمينًا وشمالًا لتجعلنا نتأقلم مع جميع البشر، حتى هؤلاء الذين يرون في البشر عبيدًا مسخرين لخدمتهم، متجاهلين القيم الأخلاقية التي تميزهم عن غيرهم.

لم يكن خطأك ناتجًا عن نقص في المعرفة، فقد كنت تعرفني جيدًا. هذا ما تؤكده كلما حاولت شرح أمر عني، حيث تقاطعني دائمًا بأنك تفهم وأنك تعرفني بشكل قاطع.

فأين ذهبت معرفتك تلك مع هذا العدد الكبير من الأخطاء؟ هل تريدني الآن أن أفهم أنك لم تكن تعرف، أم أنك تعمدت الخطأ لأنك حقًا لا تهتم؟

لكل شعور طريقة استعمال، فلا يمكنك استخدام الغضب تعبيرًا عن الحب، ولا الكراهية تعبيرًا عن الخوف. إما أن تستعمل الشعور بطريقته الصحيحة، وإما أن تتحمل سوء الموقف وتداعياته.

ربما وفي أحيان كثيرة، يتخلل حبك الثابت لأحدهم غضب طفيف، غيرة هوجاء، ندم خفي، وخيبة خجولة تمتزج مزج الطلاء بالفراشي داخل لوحة حبك، فتلطخها. بعض المشاعر لا تنفي بعضها البعض.

لا أدري كيف تصبح بعض اللحظات مسالمة للغاية مع شخص لا أستطيع التفاهم معه في أي فكرة أو قضية أو ميول. لا أدري كيف حين نصمت ونطالع بعضنا نجد الكثير مما يستحق، ويبدو أنني مسالمة. يزداد هذا الكلام وجاهة حين نكتشف التشابهات بين الأسس الفلسفية ونقارنها بالليبرالية الجديدة – وهي ليست بالكثيرة – وفلسفة نيتشه في رؤية كلا الطرفين للطبيعة الإنسانية والأخلاق والتاريخ وحتى لسلطة الدولة وفكرة المجتمع. نندهش من حجم المشترك الفلسفي المرعب بين الجانبين، حيث يرى الفيلسوف والاقتصادي النمساوي فريدريك فون هايك – المنظِّر الأهم لليبرالية الجديدة وأستاذ ميلتون فريدمان – في كتابه “دراسات في الفلسفة والاقتصاد” أن الطبيعة الإنسانية مبهمة وغير محددة، وأنها في حالة تشكّل دائم لا ينقطع، وتترك المجال مفتوحًا لأي تغيير، وفي اتجاهات لا يمكن التنبؤ بها سلفًا. وباستثناء العوامل البيولوجية والفيزيقية، لا توجد ماهية ثابتة للإنسانية ولا لحدودها.

بينما أكثر عبارة ظل يرددها نيتشه في غالبية كتبه هي: “الإنسان وهم لا بد من تجاوزه.” فمقولة الإنسان والإنسانية عند نيتشه هي فكرة ميتافيزيقية-دينية محضة من بقايا المسيحية في الوعي الغربي، وتُخفي خلفها نزعة لإرادة السيطرة والقوة. على البشرية أن تتحرر من هذا الوهم تمامًا وتعلن إرادة القوة وقوة الإرادة كحكم وحيد على نظام العالم. يرفض هايك وجود أي مفهوم سابق للإنسان، ويرفض نيتشه مقولة الجوهر الإنساني كمصدر للوعي والأخلاق، ويعتبرها مجرد وهم مسيحي ونرجسية أوروبية.

الإنسان وقت ضعفه، بالذات، يكون في أمس الحاجة لمن يحب. إذا لم يجده معه، ولم يشعر بمساندته واهتمامه، فما هو الشعور الذي يتقاسمه معه؟ وما أهمية بقاءه ولماذا سيحافظ عليه؟

إذا تصورنا أن المغلوبين على أمرهم، والمظلومين، والمعذبين، والمقيدين، وغير الواثقين من أنفسهم، والذين يشعرون بالعناء من أنفسهم؛ إذا تصورنا أن هؤلاء وضعوا نظامًا أخلاقيًّا، فما هو العنصر المشترك بين تقويماتهم الأخلاقية؟ الأغلب أنهم سيعبِّرون عن تحدٍّ متشاءم لموقف الإنسان بوجه عام، وربما حملوا على الإنسان ذاته في حملتهم على موقفه. فنظرة العبيد لا ترضى بفضائل الأقوياء، بل نلمس فيها نوعًا من الشك وعدم الثقة، والعمق في العداء لكل ما تُبجِّله أخلاق الأقوياء وتعده “خيرًا”. وربما يقنع المرء نفسه بأن سعادة هؤلاء الأخيرين ليست سعادة حقيقية بدورها.

وعلى العكس من ذلك، يُلقَى ضوء ساطع على كل الصفات التي تصلح لتخفيف أعباء الحياة عن عاتق المعذبين، فتمجد الشفقة، واليد المساعدة المنقذة، والقلب الرؤوف، والصبر، والجد، والتواضع، والتزلُّف؛ لأنها أكثر الصفات نفعًا وتكاد تكون الوسيلة الوحيدة للتخفيف من وطأة الحياة.

فالتعامل مع النفس البشرية التي تنقسم لأشخاص يجمعهم الغضب ويفرقهم المعنى، وأتعامل مع الحياة التي تعود لي وتهرب مني كرحلة لا تتكرر، ولكنها تواصل بث وقائعها وأحداثها وكأنها تعرض فيلما سينمائيًا تحرقه التراجيديا. من وجهة نظري، تغمرني هذه الحياة غير المستقرة. كل يوم تأخذ الاضطرابات تفكيري: كيف أصبح أكثر هدوءًا؟ كيف أحل المشكلات؟ كيف أعتني بنفسي؟ ربما كيف أحب وكيف أنجح في كل ذلك؟

أضع هذا القلق اليومي جانبًا فأنتبه لانتهاء اليوم دون شفاء من هذه المتاعب. كنت أرى بوضوح ندوب روحه، ولكن لا أستطيع الحديث عنها أمامه وأنا أراه يبذل جهودًا قاسية لتلافي ظهور جراحه على السطح، لأن صوته يختلف وتمتلئ عيناه بالحكاية كاملة. أردت أن أخبره أني أعرف، ربما لا أعرف الأحداث والتفاصيل الدقيقة بينها، ولكنني أعرف وأهتم.

هدوء يعم المكان وضجيج يرهق النفس. أفكر: ما الذي يحدث في حياتي، ولماذا علي مجابهته؟ أتنهد، طوال العمر تحدث الأمور التي لا أعرف لماذا حدثت. هل بسبب عيوب شخصية؟ هل هي مجرد حتمية؟ هل علي علاج كل هذا، أو اختيار شيئًا منه؟ أتنهد، وتتراءى لي أخطائي، آلامي، جراحي، والفرص. بينما يبقى السؤال المطروح: كيف تتخيل لحظتك السعيدة القادمة؟ هل بالحصول أم بالانفكاك؟

Loading...