النموذج التنموي الجديد وأسئلة تدبير الأزمات

بقلم. الدكتور أحمد الدرداري

السؤال الاول هو لماذا عجز المغرب عن تحقيق التنمية المجالية المستدامة؟ والثاني من في مصلحته تشويه الوجه التنموي للبلاد؟ والثالث هل هناك بديل نموذجي حقيقي يمكن اعتماده من أجل تجاوز الأزمات والاختلالات؟ والرابع كيف يمكن تثبيت نموذج تنموي مغربي وتعزيز المبادئ الدستورية كإقرار مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة والمتابعة القضائية عموديا وأفقيا لإعادة الثقة الضائعة في المؤسسات وفيما بين مختلف مكونات المجتمع المغربي؟

والخامس هل ممكن إعادة النظر في ادوار ووظائف الدولة الاقتصادية والاجتماعية وربط

 ذلك بكيفية خلق الثروة وإحداث فرص الشغل وتعزيز التماسك الاجتماعي؟ والسادس هل

 الأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات الوطنية والثقافية تحول دون رسم إطار فكري وثقافي

مرجعي يستوعب المصلحة العليا للوطن في ظل التنوع الحاصل؟والسابع في ظل الظرفية

 العالمية المتأزمة هل يمكن ابتكار نموذج تنموي يؤدي الى تكريس الديمقراطية ويقوي أسس نمو اقتصادي مستدام يستهدف تنمية الوطن والمواطن؟

فيظل التغيرات الاجتماعية الاقتصادية والسياسية التي يعرفها المجتمع المغربي، وبالإضافة الى الاصلاحات التي تبحث عن العدالة المجالية وكيفية إيجاد آليات خلق واعادة توزيع الثروة وتحقيق تنمية اجتماعية، وصولا الى اقتصاد عادل ومتوازنبين جهات المملكة.

وانطلاقا من الفكر الملكي ذي الأبعاد الاجتماعية والترابية للبلاد كما عبرت عن ذلك الرسالة الملكية الموجهة الى المشاركين في الدورة الرابعة لمنتدى “كرانس مونتانا”، التي احتضنتها الداخلة في مارس 2018، التي جاء فيها: “إن الجهوية المتقدمة ليست مجرد تدبير ترابي أو إداري، بل هي تجسيد فعلي لإرادة قوية على تجديد بنيات الدولة وتحديثها، بما يضمن توطيد دعائم التنمية المندمجة لمجالاتنا الترابية، ومن ثم تجميع طاقات كافة الفاعلين حول مشروع ينخرط فيه الجميع”.  فان كل الاسئلة تتعلق بمبررات اختيار الجهوية المتقدمة كإطار ترابي أفقي لتفريغ النموذج التنموي المغربي الجديد. 


ففي خطاب الذكرى السادسة والستين لثورة الملك والشعب، أكد الملك على أن الغاية منتجديد النموذج التنموي هو تقدم المغرب، وتحسين ظروف عيش مواطنيه، والحد منالفوارق الاجتماعية والمجالية. قائلا: “لقد حرصنا على جعل المواطن المغربي في صلبعملية التنمية، والغاية الأساسية منها، واعتمدنا دائما مقاربة تشاركية وإدماجية في معالجةالقضايا الكبرى للبلاد، تنخرط فيها جميع القوى الحية للأمة وهذا ما نتوخاه من إحداثاللجنة الخاصة بالنموذج التنموي التي سنكلفها قريبا بالانكباب على هذا الموضوع

المصيري”.

إن اللجنة التي تم تعيينها لم تأتي من فراغ كما أنها ليست حكومة ثانية، فهي مكلفة بتعميق التفكير في المستقبل بنوع من التقويم والاستباق والاستشراف، للتوجه بكل ثقة نحو مستقبلأفضل للوطن،واخراج كلالآليات الملائمة للتفعيل والتنفيذ والتتبع للسياسات، وجعلالمغاربةواثقين من هذا النموذج، وينخرطون جماعيا في إنجاحه.

فالنموذج التنموي في صيغته المنتظرة يعتمد على التدبير الاستراتيجي للسياسات، وينبثق عنه عقد اجتماعي جديديظم الدولة و مؤسساتها، والقوى الحية للأمة، من قطاع خاص، وهيئات سياسية ونقابية، ومنظمات وجمعيات، وعموم المواطنين”.

وفي ذكرى خطاب العرش لسنة 2019 أكد الملك على أن المرحلة هي مرحلة المسؤولية

والإقلاع الشاملأنالغاية من تجديد النموذج التنموي، ومن المشاريع والبرامج هو تقدمالمغرب، وتحسين ظروف عيش المواطنين، والحد من الفوارق الاجتماعية والمجالية، وأنالفئات التي تعاني أكثر من صعوبة ظروف العيش، تتواجد على الخصوص في المجالالقروي، وبضواحي المدن، وأنها تحتاج إلى المزيد من الدعم والاهتمام بأوضاعها، والعملالمتواصل للاستجابة لحاجياتها الملحة. والعالم القروي احتل مكانة مهمة في تفكير الملكحيث أن خلق الأنشطة المدرة للدخل وخلق فرص الشغل، وتسريع وتيرة الولوج للخدماتالاجتماعية الأساسية،ودعم التمدرس، ومحاربة الفقر والهشاشة، والهدف هو الحد منالفوارق التي يعرفها العالم القروي، رغم أنه رصدت له ميزانية خمسين مليار درهم، في الفترة ما بين2016 و2022.


أما التكوين المهني فهو مرتكز من بين مرتكزات النموذج التنموي الجديد وسياسة عموميةضرورية لتأهيل الشباب، خاصة في القرى، وضواحي المدن، للاندماج المنتجسوق الشغل،والمساهمة في تنمية البلاد، حيث أن الاتجاه التعليمي المتمثل في الحصول على الباكالوريا،وولوج الجامعة يشكل مرحلة في التعليمدون الحصول علىتكوين يفتح آفاق الاندماجالمهني ويضمن الاستقرار الاجتماعي، وأن النهوض بالتكوين المهني ضروري ليسفقط من أجل توفير فرص العمل، وإنما أيضا لتأهيل  المغرب لرفع تحديات التنافسيةالاقتصادية، ومواكبة التطورات العالميةفي مختلف المجالات. كما أن للطبقة الوسطىمرتكز من مرتكزات النموذج التنموي نظرا لأهميتها في المجتمع، باعتبارها الأساسالمتينهو الطبقة الوسطى للمجتمع، وتشكل الطبقات الأخرى باقي مكوناته.

فالطبقة الوسطى تمثل قوة إنتاج، وعامل تماسك واستقرار، وصيانة مقوماتها وتوفير الظروفالملائمةلتقويتها وتوسيع قاعدتها، وفتح آفاقالترقي منها وإليها، نظرا لأهميتها في البناء المجتمعي.

والمغرب يحتاج إلى تحقيق مستويات عليا من النمو، وخلق المزيد من الثروات، وتحقيقالعدالة في توزيعها.

وخلال العقدين الأخيرين عرف النمو الاقتصادي تراجعا بغض النظر عن النقاش حولمستويات وأرقام هذا النمو، لذا فإن العمل على تجاوز المعيقات، التي تحول دون تحقيق نمواقتصادي عال ومستدام، ومنتج للرخاء الاجتماعي يبقى هو الأهم.

وأن التطبيق الجيد والكامل للجهوية المتقدمة،ولميثاق اللاتمركز الإداري، من أنجع الآلياتالتي ستمكن من الرفع من الاستثمار الترابي المنتج، ومن الدفع بالعدالة المجالية. حيث أنالعديد من الملفات ما تزال تعالج بالإدارات المركزية بالرباط، مع ما يترتب عن ذلك من بطءوتأخر في إنجاز المشاريع، وأحيانا التخلي عنها.

وتعتبر الادارة ايضا مرتكزا للنموذج التنموي وعلى الحكومة الانكباب على تصحيحالاختلالات الإدارية، وإيجاد الكفاءات المؤهلة، على المستوى الجهوي والمحلي، لرفعتحديات المرحلة الجديدة، والوصول إلى الحلول للمشاكل التي تعيق التنمية بالبلاد.

كما ان الواقع هو أهم مرتكز للنموذج التنموي حيث يؤشر على الاختلال ويبقى بعيد عن الاهداف المتوخاة والغايات من تقسيم المغرب الى 12 جهة، ولا مجال للحديث عن العدالة الاجتماعية، بل زادت الفوارق وشهد النسيج الاجتماعي مجموعة من الأزمات ومظاهر الاحتقان، مما يفرض ضرورة إعادة النظر في وظائف الدولة التنموية على مستوى الواقع، وبلورة رؤية أكثر عمقا وشمولية تتمكن من تجاوز مكامن الخلل والضعف في تلبية الحاجيات ذات البعد المجالي، الذي يهدف بالأساس الى تحقيق عدالة مجالية.

ما تزال مسألة اعداد التراب الوطني مرتكزا للنموذج التنموي رغم ما تم إنجازه من أوراش تتعلق بالبنيات التحتية وإنشاء مشاريع كبرى. مكنت البلاد من تحقيق نقلة نوعية في النمو الاقتصادي العام منذ بداية الألفية الثالثة، رغم أن العالم عرف أزمة اقتصادية كان لها التأثير المباشر على الاقتصاد الوطني، لذا لم يعد النموذج التنموي قادر على الاستجابة للمطالب الملحة والحاجيات المتزايدة للمواطنين، وحال دون قدرته على الحد من الفوارق بين الفئات، والتفاوتات المجالية وعلى تحقيق العدالة الاجتماعية.

والنموذج التنموي في ظل نظام الجهوية المتقدمة ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار البعد المجالي في كل أبعاده حتى يتمكن من تحقيق عدالة مجالية بكل مستوياتها، الترابية، الاقتصادية، الاجتماعية وتقسيم عادل للثروة بين جهات المملكة ويوازي بين الجهات الغنية والفقيرة، حتى يتم الربط بين التنمية الاقتصادية وضرورات التنمية الاجتماعية، وعليه كيف يمكن صياغة بديل للنموذج التنموي الذي اتسم بالهشاشة الاجتماعية؟ وكيف للأطراف المعنية الزامها بالمشاركة في الاستجابة لمخرجاته؟ وكيف يمكن أن تصويب الجهوية المتقدمة كإطار لإنجاح النموذج التنموي الجديد؟

وتجدر الاشارة الى أن العقليات أيضا هي أهم مرتكز في النموذج التنموي الجديد بحيث تبقى هي القادرة على تجاوز الأخطاء ومواكبة التطور الاقتصادي العالمي الذي لا يتوقف عن النمو والتنافس، والبحث عن آليات ومواكبة لإصلاح مختلف القطاعات الوزارية وإقرار مبادئ الحكامة التدبيرية وعدم إغفال مساهمة المواطن المغربي في تنمية البلاد.

بالإضافة الى  تغليب المصلحة العامة على المصالح الخاصة لكل جهة على حدة، و تجاوز الخلافات التي تعرفها الهيئات الحزبية فيما بينها؛ بل أن تتجاوز الفهم الخاطئ للسلطة، التي تنعكس سلبيا على عمل الأحزاب السياسية داخل النسق السياسي العام للبلاد، وجعل المصالحة فن يدرك بالوعي والتوافق حول النموذج التنموي حتى يحقق العدالة المجالية المفقودة طبقا  لنموذج تنموي يستجيب لمطالب المواطنين كتحسين خدمات المرافق العمومية وتجويد خدماتها، وخلق فرص للشغل وتحريك عالم الأعمال وتوسيع الأنشطة الاقتصادية لتصل الى العالم القروي وتقلب اتجاه الهجرة. كما يبقى حسن الاصغاء والإنصات لمشاكل المواطنين والتواصل البديل التلقائي بين المؤسسات والمواطنين وإرجاع الثقة الى مكانها من خلال حوار وطني جاد وموضوعي ومسؤول تعززه المراقبة التي تصل الى ربط المسؤولية بالمتابعة القضائية.

لقد عرف الاقتصاد الوطني تحولا عميقا بفضل دينامية المشاريع الهيكلية الكبرىوالاستراتيجيات القطاعية، حيث أصبح المغرب حلقة أساسية في التعاون الثلاثي أوروبا-

المغرب-أفريقيا. ان ضمان الأمن والاستقرار يتوقف على ضمان التنمية في أفريقيا وذلك

 خلال التركيز على محاربة الفقر والاقصاء خاصة من خلال السياسات الاجتماعية.

فالإشارة الملكية بكون الاقتصاد المغربي إما أن يكون صاعدا، بفضل مؤهلاته، وتضافر

 جهود مكوناته، وإما أنه سيخلف موعده مع التاريخ.

إن التركيز على نوعية المطالب التي تواجه التحديات، والانكباب بالدراسة والتحليل العلمي والموضوعي، هو الجيار الذي يمكن من التقدم في مختلف المجالات والصعوبات والوقوف على مظاهر الاختلالات الواجب تداركها سواء تعلق الامر بتسريع الإصلاحات الهيكلية أو إزالة بلوكاج النموذج التنموي المعتمد منذ سنوات.

ولاستحضار مقاربة الذكاء الاستراتيجي أهمية في النقاش العلمي والفكري المسؤول والاستشرافي بهدف تعزيز الثقافة الاقتصادية والتبادل المثمر للأفكار والآراء بين الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين والسياسيين حول إشكالية التنمية مكن ان ينبثق عنه عقدااجتماعيا جديدا يطوق الأزمة في أبعادها المختلفة ويعزز الانجازات ويحدد الأولوياتوكذا حجم التوافقات الممكنة. ويمكن للمغرب بذلك من تحقيق طموحه بالانضمام إلى نادي

 الاقتصادات الصاعدة.

ان وضعية التنمية بالمغرب ونتائج الإصلاحات في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، تتطلب مراجعة التجربة المغربية في مجال السياسات العمومية واستحضار البعد الأمني كأمن البنيات التحتية وأمن السياسات الاقتصادية القطاعية وأمن السياسات الاجتماعية الهادفة إلىتلبية الحاجيات الأساسية للسكان ومحاربة الفقر والفوارق الاجتماعية والمجالية.

إن مستقبل النموذج التنموي الجديد يطرح البديل الفكري الوطني البناء العميق التشاوريوالتشاركي حول مشروع تنموي نموذجي يستجيب لطموحات البلاد، ويمثل مرجعا للتوجهات الاستراتيجية الجديدة ولكافة الخيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية لبلوغ المغرب مصاف الدول الصاعدة وتنمية التراب والعنصر البشري في المدن والقرى بشكل مندمج ومنتج.

Loading...