تحرير : يوسف خليل السباعي.
نعلم جيدا أن كل مسافة هي تبعيد.
لقد كان بريخت هو أول مسرحي نظر بعقلانية لقضية المسافة أو التبعيد في المسرح، وهذا موضوع هام للغاية، ولكننا الآن نقرأ لوحة تشكيلية فنية ليوسف الحداد باعتباره فنانا تشكيليا يستشعر نبضات وأزمات الواقع الفعلي، يتابعه بتمعن، ويتأمله فكريا، ثم يحوره من خلال مادة تشكيلية فنية في غاية الاستتيقية. إن يوسف الحداد يدرك مسبقا أن العالم اليوم يعيش أزمة حقيقية، والتي يعرفها الجميع، والتي تسبب فيها فيروس كورونا، لكنه لا يخاطبنا، ولاينقل لنا الواقع، حرفيا، كما يفعل الإعلاميون، إنه يتكلم معنا من خلال الألوان، بواسطة فرشاته. إنه، في الجوهر، فنان صامت، لكن لوحته خالقة لحدود المسافة أو التبعيد، هي التي تتكلم معنا، تلك المسافة الملونة والمشكلة بالأحمر والأزرق والأصفر والبني، وتلك الخيوط والخطوط والظلال( تأمل الظلال الزرقاء المشكلة بإبداعية حاذقة) دوال على السقوط. إذا لم نحتفظ بالمسافة سيكون مآلنا السقوط، وليس السقوط شيئا آخر سوى ترميزا للموت الذي يتهددنا في زمن نحارب فيه عدوا خفيا.
المسافة بؤرة التأثيرات في هذه اللوحة التشكيلية للفنان المبدع يوسف الحداد الذي يتمتع بتخييل خصب.
قد يقول قائل إن الفنان أو الكاتب أو أي مبدع لابد له أن يأخذ مسافة أو بعدا عن مايحدث في الواقع كأن يدخل إلى محرابه ويعتكف زمنا ليرسم، أو يكتب، أو يصنف أو يفعل مايريد، حتى يمر ما يمر ويخرج لنا نتاجه. وليكن ذلك، لنجزم فعلا أن هذا القول، بداهة، صحيح، لكنه، ليس إلا سلطة القول، قول يتبخر في الهواء. إن يوسف الحداد أعطى لنفسه مسافة داخل لوحته، شكل لنا مسافة داخل لوحته، لكنها مسافة الوعي، والتبعيد كما هو حال مسرح بريخت: مسرح الوعي، والتبعيد.
وهذا الوعي، لايتشكل بالقوة، وإنما بالفعل من خلال الارتقاء به عن طريق إنتاجية ذاتية متأملة و أرضية فكرية صلبة.