رشيد بوزبع: إندثار الهوية

مقتطف من إندثار الهوية

بقلم: رشيد بوزبع.

من المعروف أن الطبيعة وجدت لخدمة البشر، ولها قوانينها الخاصة غير تلك التي وضعناها نحن لتحسين أحوالنا ونمط حياتنا وتنظيم علاقاتنا مع الآخر. فماذا لو كان العكس؟! وكنا نحن من خلق لخدمة هذه الطبيعة؟! وحتى إن كان هذا الإحتمال هو الحقيقة، فنحن لا نخدمها بالشكل الصحيح، وماذا إن كانت هي راضية بهذا الوضع وتستدرجنا لما لا يحمد عقباه لنا كبشر، لكنه إيجابي من جانبها هي كطبيعة وما تخفيه لا يدرك إلا عند حدوثه.

فمن منا كان يظن أن العالم سيتوقف لفترة توقفا شبه إجمالي كما لو أن الزمن توقف وأن العالم قد حانت ساعته.

نعم لقد توقف أكثر من نصف العالم بطائراته وحدوده ومصانعه ومدارسه وبورصاته … وهنا سوف ترفع الهوية عن الكثير منا ولو إلى حين.

أليست الهوية كالروح تبعث فيك يوم تولد، تلخص فيك جنسيتك، وطنيتك، قوميتك، وثقافتك… إلى أن تتركها بلفظ أنفاسك الأخيرة ولن تكتب حتى على قبرك، وهذا من قوانين الطبيعة، وكجميع القوانين لها ثغرات، وها قد ظهرت ثغرة من ثغراتها حيث أبطلت هويتك اليوم ولو لفترة وأنفاسك لازالت بجسدك.

أتكلم هنا عن المغترب، عن إنسان عادي صاحب الطبيعة في طبيعتها، عن من كان سائحا وأحتجز مظطرا وفقد هويته دون أن يدرك أو مهاجرا للدراسة أو للعمل، عن زوجة إلتحقت بزوجها أو العكس.

الكل إعتقل في مكانه ولم يكن له الإختيار إلى أي هوية سيميل، حتى لو كانت له جنسيتين أو تلاث… فبأي هوية سوف يموت.

سأعود للحديث عن الإنسان العادي الذي صاحب الطبيعة لأنه من قوانين الطبيعة أيضا أن يعشق هذا الإنسان السفر ويسرع إليه كلما أتيحت له الفرصة. ومن قوانينها أيضا أن يطمح الإنسان إلى ما هو أفضل كتحسين ظروف عيشه ورفع مستواه الثقافي والمادي وإن كان الثمن هو الهجرة والإغتراب في وطن آخر.

الكثير فقد هويته هذه الفترة، وفقدتها أنا أيضا كمهاجر وكسجين في بيتي وكضيف في وطن الضيافة.

فقداني هويتي هذا جعلني أستفيق من نوم عميق يشاركني فيه الكثير من المهاجرين وكثير من المسؤولين في كثير من المجتمعات والأمم.

نعم لقد فقدتها لأن كل منا لزم مكانه كما لو أن الوطن والهوية أمرين غريبين عن بعضهما.

فقدت هويتي ولو لفترة حين لبست ثوب ذاك السائح العالق بإحدى المطارات أو الفنادق وفي رمشة عين أصبح بلا هوية وبلا وطن.

فقدت الهوية ولو لحين، حين لبست ثوب تلك المهاجرة التي تركت رضيعها عند جارتها ليومين فقط، لكي تودع أباها الذي كان على فراش الموت في وطنها الآخر. وجاء القرار ليصير اليومان أشهرا… ففارقت الأب والرضيع وفارقتها الهوية تاركة لها الوطن ولو لفترة.

فلا إختيار لي أين أغدو وأين أبقى فلا وطن يبادلني الأحضان كالسابق ولا القدر يقول كلمته الأخيرة وإلى أين المفر.

ستعود الأمور إلى مجراها كذي قبل، وستعود لي هويتي وتعود إلي حرية الإختيار وإلى أين أفر ما دامت الساعة لم تحن بعد.

الكل سيفرح، لكن فرحتي ناقصة ليست كفرحة نصف العالم. بل أنا حزين.

حزين لأني قد إستفقت لشيء لم يأخد من إهتمامي إلا القليل طوال سنواتي في المهجر وفي أوطان عديدة إستوطنت بها.

أنا محظوظ هذه المرة فهويتي لم تبطل بصفة نهائية لأني لا زلت أتنفسها، لكنها تندثر بشكل يومي وتندثر معها هوية مجتمع بأكمله، هويات أمم وشعوب ذنبها الوحيد هو طموحها.

خلال 30 سنة مضت إستوطنت أوطانا عدة وأرتديت هويات عدة، فأنا مدين وشاكر لكل هاته الأوطان فهي كانت بالأوطان الحاضنة وكنت أنا بالمواطن المنتج لها. فأعطيت وأخذت وأخطأت وأصبت، تعلمت وعلمت وكافحت ووصلت. فأحببتها وطنا وطنا.

لكن حين عادت إلي هويتي لم أرى سوى وطنا واحداً ألا وهو وطني الأم، ولم أعد إلا لهويتي الأصلية. لأن قصة أي شخص مع وطنه الأم تبدو كقصة الرضيع يرضع من ثدي أمه ويتحاوران. فلا هي تعلم ماذا يقول ولا هو يدري ماذا تعطيه ومع ذلك فهي تحضنه بحنان وجنون وهو يسرع إليها بفرح هستيري ومن غير وعي.

Loading...