يوسف خليل السباعي
كان عقلي باردا، وقلبي يرتجف، ويداي ترسمان علامات فارغة في الهواء. أحسست بدوار، وعدت إلى المنزل. دلفت إلى المطبخ وشربت كأس حليب. في الصالون… وحيدا أتأمل من نافذة صغيرة بشباك حديدي أسود تطل على سطح شاسع شرفة الرجل الغامض، الذي كان قد غادرها. كان في هذا الوقت تروقني كتابات تشيخوف (يومياته)، وتذكرت أنني كتبت عنه كلمات وأشياء أستحضر ذاتي من خلالها:
هل تعرفون هذا الشخص؟…
أنا أعرفه. يريد دائما أن يكون في الصف الأول. فيتم له ذلك. وفي أي لقاء يرفع يده هو الأول ليتدخل… وعندما يوافق” المؤطر” على إعطائه الكلمة، يغضب، ويركل بفمه قبل رجله. وفي بعض الأحيان، يسأل، ويغادر القاعة قبل أن يسمع الجواب. في حفل غذاء رأيته يأكل بشراهة السمك المشوي والجمبري وجسمه يرتعش…
في يوميات تشيخوف مثل هذا: “عندما يلتقط أي فريق صورة فوتوغرافية ينبري دائما للوقوف في الصف الأول، وفي المحاضرات هو أول من يرفع يده بالمداخلات. وأول من يتكلم دائما في المناسبات السنوية. إنه يتعجب دائما: “واه. الحساء! واه. المعجنات!”.
جثمان…
كتب تشيخوف: ينظر من النافذة إلى الجثمان المحمول إلى المقبرة: “أنت ميت لقد شيعوك إلى القبر، وأنا سأذهب لتناول فطوري”. وأكتب أنا: “أنظر من باب مقهاي المفضلة إلى الجثمان المحمول إلى المقبرة، ترافقه همهمات، أجلس على الكرسي غير المريح بعد مرور الجنازة، وأتناول كأس شاي أسود”.
حلم…
أرى فيما يرى النائم أنني أصبحت ثريا. سيكون لدي جناح مخصوص لنسائي السمينات العاريات والرائعات، أيضا. أرى أردافهن مصبوغة بالأزرق. أما تشيخوف، فقد كتب وهو غير نائم: “عندما أصبح ثريا سيكون لدي جناح أسكن فيه نساء سمينات عاريات وأردافهن مصبوغة بالأخضر”.
إعجاب…
تعجبني جملة تشيخوف هذه: “من يعجز عن إستمالة امرأة بقبلة لن ينالها بصفعة”. كما تعجبني هذه أيضا: “مدام ن تبيع جسدها. وتقول لكل رجل ينالها: “أحبك لأنك لا تشبه باقي الرجال”. فأسأل: “هل مررتم من هذا الطريق؟”…، أذكر واحدة قالت لي مثل هذا الكلام.
أنسى ماكتبته وأعود إلى التفكير في الرجل الغامض. الوقت يمر بطيئا. ماذا أفعل؟… أشعل دخينة كولواز، وأفكر فيها. أعانق خيط دخان. وأتذكر سناء.
سناء وجه شمسي يضيء الكون. كانت روحها ساكنة في ابتسامتها التي كانت تدخل القلب سريعا، وترج الأحاسيس. كانت سناء تمتلك العيون العسلية، الأنف الدقيق، الخدود الآسرة، والشعر الأشقر الأسيل. كانت تمتلك محلا للخياطة، تقتات منه. كما كانت تمتلك منزلا في تطوان… تقيم به لوحدها.
في يوم شمسي كوجهها المضيء قررت أن تغادر مالقا وتعود لتعيش في تطوان. هل كان قرارها صائبا؟… لا أحد يعرف. لكنها كانت تقول: “أحب وطني”، ولم يعرف أحد المعنى البعيد الغور لهذا الحب. بعض صديقاتها لم يفهمن، ولكنني أنا فهمت… واحترمت قرارها. كانت سناء تحمل في ذاكرتها بقايا صور من ذكرياتها في المدرسة الابتدائية والإعدادية، وفي منزلها الذي كانت تقيم به… والذي لم تكن تبوح بأسراره لأحد، كانت “أسراره” تحتفظ بها لنفسها كما لو أن هذا المنزل كان يسكنها، ينحفر في ذاكرتها.
كانت تحب والدها إبراهيم إلى حد الجنون، كان عطوفا عوضها عن حنان الأم التي فصلوه عنها بالقوة، لكنه كان في لحظات قاسيا، ولم تكن قسوته صادرة عنه، وكانت الأم مليكة تحبه، لكن الغلبة كانت لهؤلاء الأقوياء، الأشداء، المتعصبين، الذين لا يعرفون الحنو والحب. عاشت سناء مع والدها الذي تزوج من امرأة أخرى، ولكن سناء لم تكن تحتملها. كانت صبورة، وتنتظر الفرصة للخروج من هذا العش… كانت كالعصفور الذي يهجر عشه ثم يعود إليه.
عندما كنت أسألها عن طفولتها لم تكن تجاوب. كانت تغرق في صمت غريب، وترمقني بنظرة ملغزة. لم أكن أفهمها، لكن كانت تروقني ابتسامتها الساحرة.
لا أعرف لماذا أصبح دماغي منشغلا بالرجل صاحب النظارة السوداء. هل هو داء أصابني، أم أن هاتفا في دواخلي كان يدفعني لأعرف أسراره وأكتشفها؟!… وكيف لي أن أكتشفها؟!… وكيف لي أن أعرفها؟!… فالرجل غامض، صامت، لايحرك ساكنا.
يتبع