عبد الوهاب إيد الحاج
لم تكن حليمة تتوقع أن عند عودتها من المدرسة سوف لن تجد أمها فطومة بالمنزل. كما أنها لم تنسى ذلك اليوم العصيب وهي تتجول في دروب وشوارع وأزقة تطوان بحثا عن أمها رفقة أبيها الأستاذ “سلام”، أو كما كان يحلُو لساكنة المدينة العتيقة تسميته “سي سلام”. كان فعلا يوما عصيبا على حليمة و أبيها. قد تفقد صديقا أو حبيبا ولكن أن تفقد أمك دون أن تعرف مكان وجودها وما هو مصيرها، ولا تعرف هل مازالت على قيد الحياة أم أصبحت في عداد الأموات، فهذا يكون عسيرا على النفس ويتطلب رباطة جأش قوية إن لم نقل خارقة.
مع مرور الوقت بدأ غموض هذا الاختفاء يِؤرق بال حليمة وأبيها، بالخصوص عندما مرت أيام دون العثور عليها أو الحصول على معلومات تقودهما إلى مكان وجودها. ففي كل صباح عندما تذهب حليمة إلى المدرسة كان سي سلام يذهب للبحث عن زوجته في المؤسسات والأحياء البعيدة بل كان يتنقل أيضا إلى مدن أخرى كلما سمع خبر تواجد زوجته في تلك البلدة. لم يترك لا مستشفى ولا مخفر للشرطة ولا دور العجزة ولا أحد من العائلة القريبة أو البعيدة إلا ذهب لعله يجدها.
كان سي سلام هذا يحب زوجته فطومة كثيرا إلى درجة أنه لم يكن يتصور أن يعيش من دونها ولو ليوم واحد، كما كان يستشيرها في كل صغيرة وكبيرة، وكانت تنير له الطريق باقتراحاتها الحكيمة وأفكارها النيرة. لكن بعد اختفائها لم يعد سي سلام ذلك الرجل المتماسك بل أصبح كثير السهو وأهمل نفسه ولم تعد له شهية للأكل وأصبح يُرى وهو شارد الذهن ومهموما في شوارع تطوان ودروب مدينتها العتيقة. كان أصدقائه يتأسفون كثيرا عندما يرونه على هذا الحال وهو جالس يتكلم وحده بمقهى الدالية وسط المدينة العتيقة أو بمقهى “الطيارة” الموجودة خارج أسوار المدينة، بالخصوص وأنهم يعرفون قيمة هذا الرجل والخدمات الجليلة التي قدمها لشباب هذه المدينة.
فبالإضافة أنه أستاذ مقتدر للغة العربية كان يحب طلبته ومتواضع معهم، كما كان أديبا وكاتبا وروائيا وشاعرا وكتب عدة مسرحيات قام بأدوارها شباب وشابات المدينة، وكان يسعدهم ذلك وفي كل مرة ينتظرون إصداراته الجديدة بلهفة كبيرة. اشتهر الأستاذ “سي سلام” بمسرحية كان قد كتبها ومُثلت على خشبة سينما اسبانيول وتحمل عنوان “مذكرات بريئة مدانة” وقامت حليمة بدور البطلة. كانت مسرحية متميزة وفريدة بكل المقاييس الفنية والجمالية.
تزوج سي سلام بفطومة عن حب متبادل وكان رجلا ناجحا في بناء اسرة مثقفة ومتوازنة نفسيا واجتماعيا واقتصاديا. لكن اختفاء زوجته فطومة كان لغزا محيرا للجميع ولم تستسغه ساكنة تطوان بالخصوص ساكنة المدينة العتيقة التي تَعرف عن قرب فطومة وأخلاقها العالية والنسب الذي تنحدر منه. طول فترة غياب فطومة جعل سي سلام يتألم ألما عميقا ولم يستطع تحمله فمرض مرضا نفسانيا جعله منزويا داخل المنزل لا يخرج منه.
في إحدى أيام الربيع وبينما حليمة تهيء الفطور لأبيها لكي يأخذ الدواء سمعت دقات على الباب فإذا به جدها عبد الصبور على كرسي متحرك تدفعه عمتها البتول.
تفاجأت حليمة وقالت: إنك مريض يا جدي وكنت طريح الفراش فلما أتعبت نفسك بالقدوم إلينا؟ نحن يمكننا التنقل إليك.
قالت البتول: إنه أصر بأن يلتقي بابنه سلام ويتكلم معه في أمر مهم.
قاطعها سي عبد الصبور وقال: لقد اشتقت إليكما كثيرا يا حفيدتي، وبغياب فطومة أكيد تعيشان ظروف صعبة، فبالرغم من أنني مريض وطريح الفراش، استجمعت قواي وطلبت من عمتك البتول أن تحضرني لأطمان عليكما أنت وأباك قبل أن أموت، كما أريد ان أدردش معكما في بعض الأمور.
قالت حليمة: ستعيش طويلا يا جدي إن شاء الله. هيا تفضلا، تفضلا هذا يوم كبير الذي زارنا فيه جدي وعمتي.
دخل سي عبد الصبور على الكرسي المتحرك والبتول تدفعه وهو ينظر هنا وهناك في أركان المنزل إلى أن وصل إلى القاعة الكبيرة التي بها خزانة كبيرة للكتب والوثائق وبعض المجلات والجرائد والملصقات القديمة وطاولات ومقاعد.
وتذكر أيام كان يسكن هذا البيت قبل أن يَهَبه لابنه سي سلام. حيث كانت تُقام بهذا المنزل عدة تجمعات مع فآت عمرية مختلفة وقطاعات متعددة ومتنوعة، كما كانت هنا حركة قوية للكتاب والمثقفين وكانت هذه القاعة الواسعة تعج بشباب وشابات الحزب الذي أسسه سي عبد الصبور لجمع شتات المفكرين التطوانيين والمهتمين بمجال تنمية تطوان ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا.
قال سي عبد الصبور: أتذكرين يا ابنتي البتول كم من أنشطة وكم من محاضرات ومناقشات تمت في هذه القاعة.
قالت البتول: صحيح يا أبي إنها ذكريات لا تنسى بحيث كان يأتي إلى هنا خيرة المفكرين والمفكرات والمثقفين والمثقفات الراغبين في تطوير أداءهم الثقافي والسياسي والمساهمة في تنمية اجتماعية وحقوقية وإنسانية. إن المنزل لازال يحمل عبق تلك الحركة النضالية البريئة التي تفكر في مغرب مزدهر مثقف وواعد.
قال سي عبد الصبور: وكأنني أرى أولئك الشباب والشابات هنا وهناك، منهم من يحرر بيانا ومنهم ومن يلخص محاضرة لنشرها بالجريدة ومنهم يلقي محاضرة ومنهم من يرتب المكتبة، إني أراهم هنا وكأنهم معنا ينظرون إلينا ويسلمون علينا.
وبينما عبد الصبور والبتول يتكلمان إذ فُتِحت باب غرفة النوم وخرج منها “سي سلام” وقبَّل يد أبيه وسلَّم على أخته البتول وقال: أبي أنت متعب ما كان عليك أن تتحرك فالطبيب يوصيك وينصحك بذلك.
قال سي عبد الصبور: صحيح يا ابني لكنني أردت أن أراكما أنت وابنتك حليمة قبل أن أغادركم إلى دار البقاء.
قاطعه سي سلام: لا تقل هذا يا أبي فالأعمار بيد الله، إن شاء الله ستستعيد عافيتك وقوتك وما ذلك على الله بعزيز.
قاطعه سي عبد الصبور قائلا: كما أنني أردت أيضا أن أتحدث معكما في بعض الأمور التي تهم اختفاء فطومة. هل من جديد في شأنها؟
قال سلام: لا جديد يا أبي، فعلت المستحيل، أخبرت السلطات المحلية ورجال الأمن ونشرت إعلانات عبر عدة وسائل وزرت كل الأماكن والمؤسسات وتنقلت عبر عدة مدن لكن دون جدوى.
طلب سلام من أبيه وأخته أن يتفضلا إلى الصالون وما هي إلا لحظات حتى أتت حليمة بحلويات وشاي منعنع وبدأوا يتجاذبون أطراف الحديث عن فطومة وعن حال وأحوال تطوان. فرح سي عبد الصبور بتواجده في هذه اللحظة مع أبنه وابنته وحفيدته حليمة وأسعده كثيرا هذا التجمع الاسري الجميل، الذي كان قد افتقده لانشغال سي سلام وابنته حليمه في البحث عن فطومة.
وقبل أن ينفض الجمع سأل عبد الصبور: هل تشُكان في أحد يمكن أن يكون قد اختطف فطومة؟
لم يجب أحد فعم صمت رهيب.
ثم استرسل سي عبد الصبور قائلا: وهل تعلمان إن كان لفطومة أعداء أو حسادا أو خصوما؟
قال سي سلام: أنت تعرف يا أبي أن فطومة كانت امرأة طيبة ومحبوبة عند جميع ساكنة تطوان ولم تؤذي أحدا قط، ولم يشتكي منها أحد طوال حياتها، كما أنها كانت مشغولة طوال أيامها بقراءة وتصنيف المخطوطات وصيانتها وتحقيق البعض منها إنها لم يكن لديها وقت لخلق عداوات، لهذا أنا لم أستسغ هذا الاختفاء وأثر في كثيرا. وانهار المسكين بالبكاء.
قال سي عبد الصبور: لا تقلق يا بني وعليك بالصبر، أنا أعرفك رجلا تتحدى الأزمات الصعبة.
أجاب سي سلام والدموع في عينيه: إلا غياب فطومة يا أبي فإنني لم أستطع بعد التغلب على هذا الكابوس، ففطومة كانت كل شيء بالنسبة إلي.
قال سي عبد الصبور: هذا قضاء الله وقدره يا بني، فقلوبنا تتقطع على غياب فطومة، وأنت تعرف أنها كانت مثل ابنتي وساعدتني كثيرا في عدة أعمال قامت بها هي بنفسها. لكن علينا أن لا نفكر بالعاطفة، بل علينا أن نفكر بعقلانية. علينا أن نجد طريقا للوصول إلى فطومة وذلك لا يتم إلا بوضع بعض الأسئلة. هل أنتم معي في هذا الطرح؟
قالت حليمة: نحن معك يا جدي فأنت صاحب تجربة طويلة.
قاطعها سي عبد الصبور: لكنني هرمت يا حفيدتي ولم تعد لي الصحة الكافية للبحث بنفسي عن فطومة. لكن يمكن أن أساعدكم في رسم بعض الطرق المؤدية لفطومة عبر طرح بعض الأسئلة التي يمكن أن توصلنا إلى مكان وجودها. فمثلا سأضع السؤال التالي: من المستفيد من اختفاء أو اختطاف فطومة؟
قالت حليمة بسرعة: لا أحد يا جدي،
قال سي عبد الصبور: لا تتعجلي يا ابنتي في الإجابة، فكري قليلا.
سكت سي عبد الصبور قليلا وعم مرة أخرى صمت رهيب داخل المنزل.
فقالت البتول: منذ سنتين حكت لي فطومة عن أحد الاسبانيين وهو صاحب دار نشر كبيرة بمدريد كان يريد شراء منها بعض الوثائق والمخطوطات النفيسة التي ورثتها عن جدتها “راضية”، لكن فطومة كانت حاسمة في هذا الأمر ورفضت رفضا قاطعا. وهذا سبب لها مشاكل لأن ذاك الاسباني هددها مرارا وتكرارا وكان يستفزها من حين لآخر عبر بعض أصدقائه هنا بتطوان.
قال سي عبد الصيور: هذه معلومة مهمة وبالتالي بالنسبة لي هذا الطريق يجب اتباعه والبحث عن هذا الاسباني والتحري عنه وتقصي تحركاته فهذا طريق يِؤدي إلى فطومة. هل هناك من معلومة أخرى؟
سكتت حليمة قليلا ثم قالت: تذكرت أنني عندما أحرزت على أحسن جائزة في المسرحية التي قدمناها مؤخرا “مذكرات بريئة مدانة” قدم لي الجائزة أحد المسؤولين جاء من مدينة فاس وقال لي أنه يعرف أمي جيدا وسألني عن حالها. فاستغربت لهذا الغريب كيف يعرف أمي ويسألني عن حالها؟
قال سي عبد الصبور: جيد هذا الغريب يجب أن نعرف اسمه ونتتبع خطواته أيضا، فهذا أيضا طريق إلى فطومة؟
فكر سي عبد الصبور مليا وقال: الاسباني والغريب الآتي من فاس، لا شك أن أحدا من هذين الرجلين يمتلكان سر اختفاء فطومة. وأنا سأزيدكم طريقا ثالتا. زارني في الأسبوع الفارط أحد الأصدقاء القدامى يدعى عمر وقال لي أنه أحس أنه مطارد من بعض الناس، فأخبر أخاه بذلك فقال له هناك بحي “عقبة الحلوف” منزلا كبيرا وسط عرصة يدعى “جنان بريشة”، هذا المكان يوجد به الكثير من المعتقلين. والبارحة زارني أخ عمر ليخبرني أن أخاه قد اختفى وطلب مني مساعدته. فهذا أيضا طريق يؤدي إلى مكان اختفاء فطومة. وبالتالي لدينا الآن ثلاث مسارات يمكن اتباعها للوصول إلى فطومة، المسار الأول ذلك الاسباني الذي استفز فطومة لتبيع له الوثائق والمخطوطات النفيسة، والمسار الثاني ذلك المسؤول الغريب الآتي من مدينة فاس والذي يقول أنه يعرف فطومة ويسأل عن حالها، والمسار الثالث هو معتقل “جنان بريشة”.
سكت سي عبد الصبور قليلا وأراد أن يستمر في حديثه لكنه أحس بعياء كبير ولم تطاوعه صحته على متابعة الحديث والتفكير وبدأ يسعل سعالا شديدا فطلب من ابنته البتول أن توصله الى منزله لكي يأخذ دوائه بعدما سلم على حفيدته حليمة وابنه سي سلام بحرارة وغادر المنزل.
في صباح الغد وبينما حليمة والسي ادريس يتناولان وجبة الإفطار إذ بهما يسمعان طرقات قوية ومتسارعة على الباب ذهبت حليمة بسرعة وفتحت الباب فإذا بعمتها البتول تبكي بكاء قويا دخلت وسلمت بحرارة على سي سلام وقالت له البقية في حياتك يا أخي العزيز. فهم السي سلام أن أباه قد مات كما فهمت حليمة أن أعز إنسان لديها قد فارق الحياة.
من كتاب “التطاونيات” لكاتبه عبد الوهاب إيد الحاج
موعدنا مع الحلقة القادمة قريبا إن شاء الله، وهذا عبد الوهاب إيد الحاج يحييكم بأجمل التحيات وأطيب المتمنيات.