رواية الشرفة ليوسف خليل السباعي (تابع)

يوسف خليل السباعي

9- أعود إلى منزلي ليلا وأنا مشوش الذهن كما لو أنني غارق في لجة بحر. لا أشعر إلا بالفراغ. بدا لي المنزل غريبا، وتخيلت أن الرجل الغامض، المقعد، يجلس على كرسيه في الصالة الفارغة، الشاسعة (هكذا خيل إلي الأمر) وهو ينظر إلي بعيون محمرة، غاضبة، حادة. ربما، تخيلت ذلك، لا أعرف.

قلت في سري: “لا أتصور على الإطلاق أن الرجل قادر على التبصر. كلام صباح ظل يطاردني كشبح:” ابتعد عنها يايحيى… إنها…”. ولكنني كنت أعرف نصف حقيقتها، ولم تكن تهمني كثيرا حقيقتها. ماكان يهمني هو محاصرتها بماضيها الذي تتهرب منه وترفضه… وكانت تتوخى حجبه.

في بعض الأوقات، عندما كنت أذكرها به، وبالمغارة المنكوبة، كانت تكز على أسنانها، وتصرخ في وجهي بكلمات نابية، ولم يكن_ وجهها_ عندما تصرخ يعكس بريقا، بل وحتى ابتسامتها الساحرة لم تكن تعكس شيئا وكانت تختفي. شيء شيطاني كان يحوط بكيانها، لا تفسير له. أذكر أنها، في أحد الأيام، رمتني بمكواة، غير أن المكواة طارت في اتجاه آخر، ونجوت من ميتة محققة بعون الله.

كنت أقول بيني وبيني:” الحمد لله”، وذات يوم، حاولت كسر رأسي بحجر … ولولا لطف الله لكنت في عداد الأموات، أو، كان مآلي كموسى مشجوج الرأس.

عندما كنت أفكر في هذه الحادثات المتفرقة، أبحث في عين الوقت عن طريقة ذكية للابتعاد عن سناء، وكنت أتساءل:” هل تحول حبها لي إلى كره بسب تلك المغارة المنكوبة اللعينة”. ليس لدي جواب، ولا أجده، ولن أجده على الإطلاق. الجواب عند سناء، لكنها لا تتجاسر للحديث عن هذا الأمر. لقد تحولت ابتسامتها الساحرة النيرة إلى تكشيرة تبرز أنيابها الحادة. لم تعد سناء تضع ماكياجها المعتاد، و حوط بوجهها شحوب، بينا غدا شعرها الأشقر المصطنع المصبوغ غار ثعابين، ولم أندهش في حياتي بشكل أغرب إلا عندما رأيت عن كثب بياضا مقززا مرسوما على لسانها، وكان زهريا في وقت مضى. راحت عنها شهية الأكل، و أصبحت تكتفي في مأكلها فقط بقشور الليمون، وهي التي كانت تأكل بشراهة لاتوصف، فغدا جسمها نحيلا، ضئيلا، ك”جسم” نملة. واستغربت لوقوعي في حب هذا الجسم الغريب.

أغلقت سناء محل الخياطة. لم تحدثني عن السبب!…، وبقي الأمر غامضا… آه… هو أيضا سر من أسرارها. ربما، تزوجت، أو رحلت إلى مالقا.

علمت من صباح أنها لم تدعها تنعم بالنجاح، والشهرة، التي كانت تطمع فيهما خاصة المشاركة في عروض الأزياء. كانت صباح تقف لها بالمرصاد، ولاتدعها تعرض أزياءها القليلة، الضعيفة التي تفتقر إلى لمسات الموضة.

كانت سناء، في أوقات الغضب، التي تسيطر عليها، تكسر الأواني، والأشياء التي تحيط بها، لكنها لم تكن تقترب من حليها ومجوهراتها وفساتينها التي اشترتها من إسبانيا وتعرض بعضها. لم يكن بمقدورها تصميمها_ مع أن سناء تمتلك آلة خياطة_ كما كانت تصنع صباح.

وفي يوم ماطر، في منزلها، كانت سناء تهيأ وجبة سمكية. قلت لها:

– ” أعرف المغارة المنكوبة. سمعت عنها وزرتها. كانت عبارة عن كهوف!… لاتليق بعيش آدمي”.

دفعتني بقوة غاضبة، فأحسست بألم في قفص صدري. لم تكتفي بذلك فحسب، بل كادت أن تحرق وجهي بمقلاة سمك، فلم أتمالك نفسي وصفعتها، فساقطت على أرضية المنزل، وبدأت تتمرغ على الأرضية كما لو أنها تتمرغ في مستنقع حتى غابت عن الوعي.

خفت. سارعت إلى المطبخ، ملأت كأسا ( دائري الفم) بالماء، وقمت برشه على وجهها، فاستيقظت مصدرة شهيقا عاليا، لكنها لم تفتح عيونها إلا بصعوبة.

تركت سناء عل حالها. أصفقت الباب، وخرجت.

كلما مررت من أمام محل الخياطة سناء أتذكر المغارة المنكوبة، المسحوقة، اللعينة والمختفية. لم يبق لها أثر، ولم تعد إلا ذكرى مريرة، كما أتذكر البهجة المنبثقة من عيونها والتي كانت تحلق في المدى كطير خفيف ومرح. ولا أغفل، إن كنت غافلا، سحر ابتسامة سناء النيرة التي كانت تخفي وجها الخيانة والكذب.

وبلا حسرة، قلت بيني وبيني: “أكبر خيانة: الكذب!”.

يتبع

Loading...