يوسف خليل السباعي
10- في الليل قررت أن أقتحم منزل الرجل الغامض. كان اقتحامي لمنزله سهلا حيث كان الباب مواربا. فكرت ساعتها أن الرجل قد اختفى كما اختفت سناء.
عندما دخلت، كان المنزل محوطا بظلام غامق، غير أن شعاع نور بدأ يتسرب من الشرفة التي بقيت بابها مفتوحة. الشرفة التي كان يخرج إليها الرجل وكان يبثها أسراره وقصصه كمالو أنها “كائن” حي.
طفق النور على صندوق كبير. لم يكن صغيرا كما تخيلته ذات يوم.كان الصندوق مغلقا، غير أنه بلا قفل. عندما فتحته خرجت منه حية مشقوقة اللسان. خفت في أول الأمر، غير أن الحية تركتني وشققت طريقها في سكون إلى الشرفة. بقيت مدهوشا وأنا أحدق إلى الحية التي خرجت من الشرفة ولم يعد لها أثر.
عدت إلى الصندوق الكبير، وإذا بي أعثر على أوراق صفراء مكتوبة بخط رديء، وعندما تفحصتها وجدتها ناقصة ومبتورة كمالو أن الحية بلعت أجزاء منها. أخذت الأوراق الصفراء على الفور، وخرجت تاركا الباب مواربا وعدت إلى منزلي.
كنت أدرك أن الرجل الغامض يخفي سرا أو أسراراكما كانت تخفي سناء أسرارها.
نظفت الأوراق الصفراء من الغبار العالق بها وبدأت في القراءة، وأنا مدرك أن الأوراق ناقصة. كانت هذه الأوراق شظايا أحلام الرجل الغامض وكتاباته الخفية.
في الشظية الأولى، مكتوب:” كنت أحتسي مساء كأس قهوة بالحليب في ” بلوسكاي”، وأتروى البحر، وإذا بامرأة سمراء خائفة تجري باندفاع لتدخل بعجلة إلى المقهى، وتصعد الدرجات، ثيابها عادية، لكن قسماتها غريبة. كانت هذه المرأة حامل، ولم تكن تحمل في غورها إلا سرها الدفين. من أين لي أن أعرف قصتها!… ذلك أمر في طي الغيب. كانت المرأة تبكي وتضرب بيديها على ركبتيها. لم تكن هذه المرأة المرتجفة عادية في حركاتها ومن قسماتها كان يسكنها خوف من المجهول!”.
استغرب وقلت في سري، متسائلا:” من هي هذه المرأة المرتجفة؟!…، وهل كان الرجل الغامض موجودا في “بلوسكاي”. لقد كنت أعرف المقهى جيدا. ياللغرابة!…، يبدو، على ماأظن، أن الرجل كان يعرف كل تحركاتنا، وكل شيء، وربما، هو واحد من رجال المخابرات، أو طفيلي، غير أنني استبعدت مباشرة هذه الفكرة التي سيطرت لدقائق على ذهني، وبقيت ساهرا الليل وأنا أقرأ تلك الأوراق الصفراء.
كتب الرجل:” إنني أكاد أعرف ذاك الشخص الأبله. كان يقود سيارته السوداء بسرعة جنونية. ثمة أشخاص يقودون سياراتهم بسرعة جنونية، لايكترثون بالآخرين. إنهم يندرجون في خانة محدثي النعمة. هؤلاء لاثقافة لهم.
انتقلوا من أعمال بسيطة إلى مناصب محددة عن طريق المحسوبية والزبونية والوساطة، والآن، يمتلكون سيارات وغيرها بواسطة أعمال النصب والرشوة. قال صاحب السيارة السوداء لرجل بسيط:” لاتلمس سيارتي، ارحل من هنا”. كان الرجل البسيط مارا في الطريق ومن دون قصد لامس بيده اليمنى البيضاء جزءا من السيارة السوداء. الرجل البسيط لم يرد عليه. كان ذكيا. راح وقدم شكاية بذلك الشخص إلى النيابة العامة. الحقيقة ظهرت، في النهاية، فالشخص كان يحتل ملكا عاما وبسيارة سوداء مسروقة وقد ضبط بمخالفات لم يسدد مبالغها المالية والثمن الذي دفعه وسيدفعه كان غاليا. كما أن السيارة السوداء كانت واقفة في مكان ممنوع، ولم تكن فارغة أيضا، بل كانت تحمل ملابس داخلية لنساء وأشرطة بورنوغرافية. والبقية تعرفونها”.
أدركت، بعد الانتهاء من قراءة الشظية الثانية، أن الرجل الغامض لم يكن أكمها، وكان يرتدي النظارة السوداء وقاية له من الشمس.
ألقيت بالأوراق الصفراء، التي لم أفهم ولا كلمة منها كما لو أنها خربشات، و لم أستوعب ماذا كان يقصد بها ذلك الرجل الغريب، غير المفهوم مثل جبل الجليد العائم، الذي احتفظ بها مغبرة في صندوقه الكبير مع حية، على البساط الأرضي كما كنت أفعل بكتبي التي كانت تكتسح الأغطية الساخنة، وخرجت.
11- لا أدري تماما لأي سبب قادتني خطواتي إلى منزل سناء. هل مادفعني إلى ذلك هو اشتياقي لها أو هو حنو ما؟!..، أو، حتى لا أكذب، مع أنني لست متأكدا من ذلك، فمن منا لايكذب، حالة شعرية عذبة كالماء كنت أسيرا لها، لا أدري. ربما كان صوتها هو من يناديني، أو قد يكون صوت يدوي في الليل المعتم.
وقفت أنتظر… أنتظر أمام شباك يتيم. كانت نوافذ منزلها مغلقة، غير أن بصيصا من النور كان يتدفق منها، نور ابتسامتها الساحرة، وكان الليل المعتم يؤنسني كموج البحر أو كصديق قديم.
شباك يتيم
في الشارع الطويل
السيارات تمر بعجلة
تسير كالبرق
كان الشارع لي
لم يكن يتيما كشباك
وكان الليل المعتم يبسط يده علينا وينتظر…
لم تأتي
أغلقت هاتفها الجوال
واختفت كغزالة الغابة
هل كان الأسد هناك؟!…
نعم.
لا.
كان الشارع واقفا في حيرة
السيارات تمر بعجلة
والليل ينتظر…
إنها لن تأتي.
يتبع