يوسف خليل السباعي
اللويحات الثانية:
13-
غير بعيد عن المقبرة كان هناك طريق ممتد إلى حي “سكرينيا”. كنت أعبر هذا الطريق بانشراح. أتذكر أن في هذا الحي كان يقيم أصدقائي (س)، (ع) و( م)… ولي ذكريات جميلة وجذلة في هذا الحي، الذي كان حيا نظيفا، وراقيا، بالنسبة إلي في ذلك الوقت. هذا الحي كان يقيم به موظفون، رجال تعليم وأمن وبريد وغيرهم، ولكنهم كانوا يعشقون النظافة والجمال، وينتفضون ضد الأوساخ، الدمامة والقبح. كانت علاقتي بأصدقائي هناك شفافة، صادقة، كانوا يدرسون معي في نفس المدرسة…، إلا (م)، الذي امتنع عن متابعة الدراسة. كان يريد الرحيل إلى سبتة والعمل بها.
كان هذا شغفه وطموحه وتحقق له ذلك ذات يوم. وكان (م) يجعلنا نضحك، وكثيرا ما كان ينضم إلينا في بيته خالي (ر) و(م.ي).
في ذلك الوقت كان مسلسل عنوانه ( لارا والبحر) يعرض على شاشة التلفاز المغربي، كنا نتابعه صغارا بشغف، وكنا نسأل (م) عن مقدرته في ترجمة عنوان المسلسل إلى الفرنسية، فكان يرد هكذا( Lara et l’eau)، فنموت من الضحك، وعوض أن ينفعل أو يقلق كان (م) يضحك هو الآخر من دون أن يفهم.
ذات مساء أتى (م) ببنت سمينة، لا أدري من أين التقطها. وقال لنا اصطفوا كل واحد سيأخذ دوره. اصطففنا تغلبنا الرغبة. كان سطح البيت فارغا، وهناك حجرة صغيرة. أدخل البنت السمينة وأغلق الباب، وبعد دقائق خرج وهو يربط حزام سرواله، ضحكنا وأخذ كل واحد منا دوره، وبعد اكتما ل العرض ضحك الجميع.
كانت هناك أشياء كثيرة وقعت، لا أتذكرها كلها، ولكنها كانت أوقات مرحة.
كنت أرغب كثيرا في المرور من حي سكرينيا ودروبها، لأسباب كثيرة، وأيضا لسبب آخر.
كان يوجد هناك حمام جدي (ت).
هذا الحمام الذي كنت أرى فيه أجساد النساء المتلونة عندما كنت أرافق أمي إليه في سن صغيرة. كان حمام للنساء يوجد على الواجهة، مواجها للشارع الرئيسي بالقصر الكبير، وحمام الرجال في غور الدرب، الذي كنت أذهب إليه في وقت آخر للاستحمام أو لرؤية باادريس.
14-
لا أحد كان يعرف قيمة هذا الرجل.
باادريس.
كان الحمام بيته. أتى من مراكش إلى القصر الكبير يحمل جرحا غائرا. لم يحدثني عنه. وبعد مماته سأعرف أنه أتى مقطوع الجناح لتتلقفه جدة أبي، فيسكن في بيتنا القديم.
هذا الرجل قضى عمره في حجرة صغيرة في حمام جدي (ت)، الذي كان يعمل فيه.
كان شيخا وقورا، محترما… لون بشرته سمراء، ووجهه لامع تحيط به لحية بيضاء رقيقة، ولم يدع الجلباب تهجره أبدا كأنها زوجته ( الغائبة) الملتصقة بجلده، ومسبحته البنية الشكل التي كانت ترافقه كعصا سحرية.
كان يخفي سرا. ولا يتكلم إلا قليلا، ولكنه كان يحبني، أو يرى في، أبناءه، الذين رحلوا بغتة.
في آخر أيامه كنت أزوره في حجرته الصغيرة بالحمام. لم يكن النور يصل إليها. كان يتكلم بصعوبة. ألم به مرض. لكنه لم يكن يشعرني بأنه مريض. كان يخفي مرضه عني لسبب لا يعلمه إلا هو.
كتبت يوما في “الظل”… لا أنكر أني كنت أحبه، وهو كذلك كان يبادلني نفس الشعور، ورغم المرض الذي ألم به في آخر حياته، ظل يقاوم، وكنت أنا أزوره من وقت لآخر، لم أتخلى عنه. كانت تعجبني الحكايات التي كان يرويها لي… حكايات عن الحب والموت… عن بلدنا… وعن فلسطين…
أتذكر آخر مرة رأيته فيها، وهو يدخل الحجرة والقنديل في يده اليمنى، نظر في اتجاهي، ثم أشاح بوجهه عني. أغلق الباب… الباب.
منذ ذلك الوقت اختفى.
15-
اختفى الرجل.
وعندما مات أدركت معنى ما فاه به كافكا:
– لا أشعر بحقيقة نفسي إلا عندما أصاب بحزن لا يطاق.
أحسست أن كافكا يكلمني. يفتح لي طريقا للأسى وتذكرت للتو شقيقتي (م)، الذي اختفى قبرها، ولم يبق له أثر.
وفي يوم مماته هطل مطر غزير. كنت أمشي تحت المطر، الذي بدأ يتقلص، مع الجموع، التي رافقت تشييع جثمانه.
أمشي بين القبور، أتابع المشي، أقرأ بعجلة أسماء نساء ورجال غادروا الملكوت. أبكي على فراق شقيقتي (م)، تلك الشمس الغائبة، وأبكي على با ادريس، الذي رحل من دون أن يترك أثرا كمثل شقيقتي (م)، التي خطفها الموت، وهي صغيرة.أبتعد قليلا عن الجموع، وأنظر إلى القبر، الذي سيدفن فيه باادريس، وأرنو ببصري إلى نافذة بيت خالتي المفتوحة المطلة على المقبرة الشاسعة، يتسع لجثمانه، وبعجلة متنبهة يتم إخراج جثمان باادريس من المحمل ويضعه بعض المشيعين داخل القبر. و بلا انتظار، شرع حفارو القبور في تغطيته بكثافة بالتراب الأسود.
16-
أذكر أنني عندما كنت أغادر الحمام أفكر في بيتنا –الذي رحلنا منه- المجاور لبيت (و)، فأقترب منه. ألامس بيدي اليمنى بابه، وأنظر إلى الدرب الضيق الذي كنت أمر منه لأصل إلى بيت جدتي (ف).
كان جمال (و) الزاهر يجعلني مجنونا بها، لكنها لم تكن تعرف… كان حبا ناقصا.
كان جمالها يبهر الجميع.
عرفت (و) طفلة، مراهقة، لا تتبدل، وشخصيتها قوية، لكنها مبهرة أبدا.
كان في حياتها رجال وشعر ووجاهة.
ذاك الحب الناقص جعلني أشغف بأغاني حليم.
17-
كنت أدخل إلى إحدى غرف البيت. أسمع أغاني حليم من الراديو. وكثيرا ما غنيت بعضها.
ذات يوم، وفي إحدى الأنشطة المدرسية، شاركت بأغنية لحليم. لم أعد أذكر عنوانها، وهي أغنية صعبة جدا على مستوى الأداء، وإذا بالجمهور – الذي يتكون معظمه من التلاميذ- يقذفني بالبيض والطماطم، فما كان لي إلا أن ألقي بالميكروفون على الأرض وأخرج غاضبا، وهذا الغضب لا زمني في مراحل من حياتي، لكنه اختفى فجأة، ولم يعد يلازمني بتاتا.
وكانت خالتي (م) تحب أن تسمعني أنا وخالي (ر) نغني “حاجة غريبة”. أنا أقوم بدور شادية وهو بدور حليم، ثم نتبادل الأدوار، فيقوم هو بدور شادية وأنا بدور حليم.
ونغني:
حاجة غريبة .. الدنيا لها طعم جديد
حاجة غريبة .. انا حاسس إنّ ده يوم عيد
وأنا حاسة الدنيا هربانة .. ويانا فـ ليل كلّه سعاده
ليها فرحة حلوة في عنية .. وحلاوتها سكرها زيـاده
أنت عارف ليه ..
قولي إنت ليه ..
علشان احنا مع بعضينــا .. ولأول مره لوحدينا
ولا حدش بيبص علينا .. غير فرحة قلبنا وعنينا
حاجة غريبة .. الليل ده كلّه كان امبارح .. بيزيدني حرمان وأسية
إتغير ليه .. إتغير ليه .. حتى سواده لوه ضيّ حنيّن في عنيّ
والنجمة دي أنا عارفاها .. وتمللي بسهر وياها
بس الليلة بتلمع اكثر .. وبتندهلي وانا سامعاها
اهي بتشاور اهي بتقرب .. انا دلوأتي ماشيه معاها
حاجة غريبة .. انت كمان انا شايفاك ماشي وياها
أنتِ عارف ليه ..
قول لي إنت ليه ..
علشان احنا مع بعضنا .. ولأول مره لوحدينا
ولا حدش بيبص علينا .. غير فرحة قلبنا وعنينا
حاجة غريبة ..
حاجة غريبة .. السما بتغني .. انت سامعها
ايوه سامعها .. بتغني مع فرحتي حبّي
والموجه اللي هناك دي بترقص
ايوه شايفها ..
دي بترقص على دقة قلبي
انت شايف .. انت سامع .. انت حاسس
احساس غريب .. قبل النهار ده ماجربتــــــــــــــوش
وشعور جميل .. عمري في حياتي ما عرفتــــــــوش
ايه اللي جرالنا احنا بنحلم ولا بنحلم .. كلمني قـول
لو كان ده حلم .. ياريتوا يطول
علشان نفضل .. نحلم كده على طول
والدنيا تفضل هربانة .. ويانا فـ ليل كلّه سعـــــاده
ليها فرحة حلوة في عنية .. وحلاوتها سكّرها زيـاده
أنت عارف ليــــه ..
أيوه عارف ليـــه ..
علشان احنا مع بعضينا .. ولأول مره لوحدينا
ولا حدش بيبص علينا .. غير فرحة قلبنا وعنينا
حاجة غريبة ..
وعند الانتهاء. يضحك الجميع، ونتفرق. ويبق صوت حليم يشق عتم المساء في مدينة بلابحر.
18-
في أوقات، كنت أحس بالوحدة. فلا أجد غير الكتاب رفيقا.
لم تكن كل الكتب تتسع لمكتبة البيت بعمارة جدي (ت).كانت الكتب الفائضة يتم وضعها في مكان بالمطبخ يدعى ” السهوا”. كانت هذه الكتب الفائضة في غاية الأهمية بالنسبة إلي في تلك المرحلة.
وفي غفلة من رقابة أمي وأبي، كنت أصعد إلى ” السهوا”، وألامس الكتب. كانت في مجملها روايات بأغلفة جميلة. روايات لنجيب محفوظ، يوسف السباعي، إحسان عبد القدوس، طه حسين وغيرهم.
كانت أمي، حين لا تجدني في البيت في أول الأمر تبحث عني في كل مكان، لكنها لا تعثر علي.
ذات مساء، ألقت نظرة على ” السهوا”، بعد الوقوف على السلم الخشبي للمنزل، فوجدتني محتضنا كتابا.
منذ ذلك الوقت، أصبحت متعودة على هذا الأمر، وعلى جنوني، وحبي للكتاب.
19-
لم تكن هذه المرحلة إلا مرحلة ملامسة الكتاب ( أو الكتب)، نوع من التعزيم ، لا القراءة…، وهذا المشهد سيتكرر كثيرا، ولكن هذا لم يكن يكفي ليزيل عني كآبة كادت أن تجزرني، تحطمني إلى الأبد، فكان الطريق إلى تطوان حلما تحقق، حيث كنت أزور عمتي (خ)، بهذه المدينة التي ستصبح فيما بعد مستقرا لي، وللعائلة برمتها.
ما كان يعجبني في عمتي (خ)، عندما كنت أزورها وأنا طفل صغير، في بيتها بسانية الرمل بتطوان، هو اتزانها، ورقتها، وحنانها، التي كانت تغدقهما علي وعلى أبنائها، وكثيرا ما جمع هذه العائلة الصغيرة شاطئ أزلا، في عز الحر، وكنت أنا أفضل النوم في العراء، محتضنا الرمال، وعيناي ترقبان القمر الناصع البياض.
كنت أحب كثيرا طبيخ عمتي خدوج، ذلك الطبيخ التطواني اللذيذ، كنت ألحس أصابعي من فرط لذته، كما لو أنني أقرأ رواية لهمنغواي أو لبالزاك، وفي أحيان كثيرة كانت تضع لنا في الخبز الباذنجان ” المرقد”، فنأكل ، أنا وأبناء وبنات عمتي بكل تلذذ.
أتذكر ذلك الدرج المقابل لمنزل عمتي، الذي كنا نجلس عليه ( الأمر هنا يتعلق بسن المراهقة)، حيث دخنت الكثير من سجائر ال” روثمان”، و” كنت” و “مور” وغيرها من السجائر الممتازة في ذلك الوقت، وكنت أقلد الممثل المصري الجميل محمود ياسين، الذي كانت تعشقه كل الفتيات المراهقات، وحتى النساء الكبيرات، أو غير الكبيرات ( أتذكر أن أمي كانت معجبة كثيرا بعمر الشريف، وليس بمحمود ياسين)، وكنت أتصور أنني أشبه محمود ياسين، أو عمر الشريف، أو ألان دولان، وهذا أمر يعود إلى زمن مضى، وعندما كبرت، وبدأت أتذكر هذه الأشياء، لم أتوانى عن الضحك، هيء… هيء… هيء…، وفي الواقع كنت شاهدا على أحداث كثيرة، في تلك المرحلة، لم أعد أتذكرها كثيرا، كانت عمتى (ع) – التي تقيم بسبتة- تزورنا، وكانت جميلة الروح، وتضحك دائما، تمتلك قلبا كبيرا، وكذلك عمي (ج)، الذي كان يقيم في شفشاون، وكان رائعا في بسمته، وروحه، وصوته التي كانت به بحة، وكان صوته يبهرني، كما أن قلبه كان كبيرا. عمتي (ع) لا تزال تعيش في سبتة، في حين صعدت روح عمي جعفر إلى السماء، وأسيت عليه كثيرا، كان دائما يحمل بين يديه ” السبسي”، تلك كانت متعته الوحيدة… (وفيما بعد حين سأشتغل مراسلا صحفيا في جريدة ” العلم”، وستكون لي علاقة طيبة مع أستاذي عبد الجبار السحيمي، سأرى فيه عمي (ج) ولا أنكر أن عبد الجبار السحيمي علمني “الصحافة”، تلك المهنة المتعبة، لكن الممتعة، أيضا).
بعض من طفولتي، ومراهقتي وشبابي، كان موزعا بين ثلاث مدن: القصر الكبير، أصيلا وتطوان، كما كانت لي بعض الجولات في سبتة، التي أحبها إلى الآن، وفي حي “خادو” حيث تقيم عمتي (ع)، لكن تطوان كان لها تأثير، وقضيت بها شهور وسنوات، قبل إقامتي بها بعد خروجي من مدينة أصيلة، ومتابعة دراستي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان بدءا من سنة 1982.
ما أذكره في تطوان الطفولة والمراهقة، هو اللعب، التدخين، العلاقات الغرامية، والتجوال، والطعام، لا وجود لشيء إسمه الكتاب. ذلك سيأتي فيما بعد.
مات عمي عمر زوج عمتي خدوج السنة المنصرمة، مشيت في جنازته، وبعد أن طواه القبر، عدت إلى بيت عمتي (خ)، دخلت…، ألقيت السلام على ابنتها (ف)، وسألتها عن (س)، لم أراها، بصعوبة تذكرتني عمتي، لكنها تذكرتني، قيل لي: إنها لم تعد تتذكر إلى القلة القليلة من الناس، أما أنا ابن أخيها (خ)، كنت محظوظا.
كان عمي (ع) رجلا مستقيما، ومتفتحا، كما كان مكافحا.
منذ ذلك الوقت لم أرى عمتي (خ)، وكلما مررت من أمام باب البيت القديم، الذي يذكرني بمرحلة من طفولتي ألقي نظرة عليه من بعيد، وأتابع طريقي.
وإن كنت لا أحب أن أتكلم عن تفاصيل دقيقة، فذلك لأن هناك أشياء لا يمكن البوح بها، أشياء تبق ساكنة في الأغوار… لكنني أتذكر تلك العلاقة الغرامية بين إبنة عمتي (ف)، و(م) الذي كان يشتغل في مضيق جبل طارق، وكانت تظل تنتظره باشتياق إلى أن يعود ليكتمل هذا الحب الصلب بالزواج. وفي بيت عمتي (خ)، سأتعرف على فتيات، يقمن في بيت مجاور لبيت عمتي، وسأعشق واحدة. كانت كالوردة المتفتحة. عندما كنت أقبلها، أشعر بأن العالم ملك يدي. كانت قبلتها شهدا. وضحكتها بهاء نور.
ومهما ابتعدت عن القصر الكبير، كنت أعود إليها، وأفكر في تطوان. غير بعيد عنها في العرائش كان نداء الدم يناديني، وكان البحر يفتح ذراعه ليحضنني. فتشرق الشمس، ويظللني الشجر.
20-
كان بحر العرائش مرساي.
كنا نقطع بالزورق أنا وخالي (ر) و(ع) للوصول إلى الشاطئ مياها زرقاء ناصعة، بل في أحيان كثيرة تبدو خضراء. أيادينا تلعب بالمياه المتموجة، نرغب في الوصول إلى الشاطئ بعجلة. وعندما نصل نرتمي في البحر كأننا نرتمي في أحضان أمهاتنا. ألم تكن العرائش مكان ولادة أمي؟… أليست هي محتضن العائلة. بين تطوان، والعرائش، وأصيلة، ومولاي بوسلهام كان العبور، والضحك، والفرح، والغرام، والتسرع.
كنت أتفق كل الاتفاق مع جملة كافكا:
– تنبع كل الخطايا من خطيئتين أساسيتين: التسرع والكسل.
كنت متسرعا في قراراتي. لكنني لم أكن كسولا.
كان التسرع في إغفال من أحبتني.
21-
الحب القوي، الكبير، كان في الزمن الماضي.
كنت في فترة المراهقة أحب بنتا جميلة، رقيقة المشاعر، إسمها (إ).
هي ابنة خالتي (ز).كانت زهرة روحي، وكنت أحبها.
رأيتها طفلا، ومراهقا في العرائش، ورأيتها أيضا وأنا شاب في هذه المستوطنة الفينيقية القرطاجية والرومانية…
ما أتذكره هو تلك النظرة المتبادلة بين الطرفين.
ذلك الكلام القليل.
ذلك الحب القوي، الكبير، الذي تبخر في هواء مرتيل.
انطفأ.
لا أتذكر إلا الدموع، السماء الزرقاء، البحر الهائج…
بعد فترة، سأعلم أن (إ) تزوجت وسافرت إلى مدينة الضباب.
غابت عني أخبارها.
مات رفيق عمرها في مدينة الضباب.
علمت بذلك، لكنهم لم يدعوني أذهب إلى الجنازة…
أشياء حدثت، أشياء لم تحدث…
كان حبي لها مختلفا عن حبي ل (س)، وحبي ل ( ف.ز)، من العائلة الكبيرة، التي كانت تأتي إلى القصر الكبير، فنلعب معا، ولا أدري هل كانت هي تحبني… أم لا؟… شيء لم أستوعبه أبدا. كانت خالبة. جميلة. لديها ابتسامة حلوة مثل ابتسامة تحية كاريوكا.
ذات يوم التقينا في طنجة، حيث كانت تمضي أيام العطلة مع جدتها، هي ذاتها خالة أمي، وكانت تخاف من والدها، الذي لم أراه إلا مرة واحدة. كنت أسمع من كلام يدور كالرحى، وأنا صغير، أنه كان متيما بأمه إلى درجة العبادة.
ذات يوم، سافرت إلى الدار البيضاء رفقة أفراد من العائلة.
التقيت ب ( ف.ز)، تحتفظ دائما بجمالها وابتسامتها الحلوة. أتذكر تلك العمارة ذات الطبقات الكثيرة، كانت عمارة شاهقة. عندما كنت أنظر من الشرفة العالية إلى الأسفل، حيث البشر والسيارات، أجد أعضائي تتجمد، فأرتعب، وأكاد أتحول إلى حجر.
22-
لم أضرب أحدا ولو بحجرة. هكذا كنت مسالما، هادئا، صبورا.
كان العرق ينزل من جبين أمي وهي تأمرني أنا وأختي:
– اجلس أنت وأختك بالباب، ولا تتحرك.
فنجلس إلى أن تعود.
في يوم من الأيام، وقع عراك بيني وبين أحد فتوات حينا بعمارة جدي (ت). كان يعتدي على الأطفال، فغلبته، وجعلته يأكل التراب بالبأس حتى تراخت قواه وبدأ يستعطفني لأطلق سراحه. ولا أدري من أين كنت أستمد تلك القوة؟… أو أنني كنت أريد أن أمسح تلك الصورة الهادئة التي ارتسمت في مخيلتي. صورة المخلوق الحجرة.
لكنني مع ذلك كنت هادئا في المدرسة. وكان معلم العربية، يطلب مني أنا وبنت جميلة، لم أعد أذكر إسمها، قراءة نصوص التلاوة بصوت مرتفع، فأقرأ أنا، ثم تقرأ هي، فيصغي الجميع في هدوء، وعند الانتهاء من القراءة يحيينا المعلم بابتسامة طلية، فأنصرف إلى مقعدي بحبور. وأرنو ببصري إلى البنت الجميلة، فتبتسم لي، ثم تشيح بوجهها…
بعد الخروج من المدرسة كان يروقني مشاهدة القطار وهو يمر مطلقا صفارته.
كان القطار يمر كالبرق من أمام مدرستي. ولما كان يمر كانت الريح تصفر، فيخيل إلي أن عصافير صغيرة تطير من داخل حقيبتي المدرسية.
كنت عندما أخرج من مدرسة ابن خلدون بالقصر الكبير، كان يروقني مشاهدة القطار وهو يمر بسرعة البرق. كانت سكته… قريبة من المدرسة، وكنا أطفالا نشعر بمتعة – لا خوفا- عند سماع صفيره المتعالي.
هذا القطار كان يمثل لي الفرح والسفر، كما كان يمثل لي الموت، أيضا، لأنه تسبب في قتل بعض الأبرياء.
23-
أتذكر حادثة سير وقعت لأبي في زمن بعيد.
لم يكن أبي عاد إلى البيت.
مكث طوال النهار في مكان ما، أجهله، مع أصدقائه.
قالت لي أمي: ال”خ” تأخر، إذهب للبحث عنه.
كان الليل بدأ يرخي سدوله.
كنت في سن المراهقة، ارتديت ملابسي، وخرجت.
مررت من أمام دكان الميكانيكي الريفي… لأجد نفسي أمام “مولاي علي بوغالب”، تمشيت بضع خطوات لأسمع صوت ارتطام سيارة مهول… نظرت، كان المشهد بعيدا… جريت… جريت… كأنني أحسست بأن أبي سيكون هناك، أو، أو كأن صوتا، لا أدري هل هو آتي من ملاك أو إنس، يهتف في أذني: إنه ال”خ”.
ما إن وقفت في مكان الحادث، حتى كان أبي غارقا في دمه، نائما على الأرض، والزجاج يملأ عينيه ووجهه، كما لوكان ميتا.
صرخت بكل قواي، بكيت.
كان أبي يتمشى مع أصدقائه في طريق العودة إلى البيت. فدهسته سيارة كان يقودها رجل سكران، ثم هرب.
جاءت سيارة الإسعاف. ذهبنا إلى المستشفى، إلا أن الطبيب الذي فحصه، قال لنا أنا وأمي ( التي جاءت طائرة على جناح يمامة): لابد من نقله في الحال إلى مستشفى في الرباط، فحالته خطيرة.
ظل أبي ثلاثة أيام في مصحة بطنجة، لم يكن الوصول إليها سهلا، أتذكر فقط تلك الأشجار الكبيرة، والجبال، التي كنت أراها من خلال نافذة السيارة.
ظل أبي هناك في غيبوبة. ثم استفاق، وأجريت له عملية جراحية.
وبقدرة الله، نجا. وكتب له عمر جديد.
حياة جديدة.
24-
في طفولتي ومراهقتي، كان البحر يجسد لي تلك الطبيعة “المبهمة”، أو ” الملتبسة”.
كانت أسرتي الكبيرة كثيرا ما تتردد أحيانا، في الصيف، على ” مولاي بوسلهام”، و” أصيلة” الجميلة أحيانا أخرى. لم يتبقى من هذه الأجواء البحرية، سوى بضع صور عن شاطئ “مولاي بوسلهام” الشاسع، الجميل، وبعض من بقايا الضحك، اللعب، السباحة، المغامرة. أتذكر أنني كنت أقطع مع خالي، وصديق الطفولة “أحمد الريسوني” (هذا الأخير كان رجلا عسكريا، وله رتبة فخيمة في الجيش المغربي، توفي في حادث سيارة) “المرجة” سباحة من دون خوف أو فزع، فنصل إلى أرض شبيهة بجزيرة عامرة بالشجر والجبال العالية، (حيث كنا نتصور أن نسرا “ضخما” يستوطن ذلك المكان)، مثلما نشاهد ذلك في الأفلام. وكان هذا الأمر يتكرر أكثر فأكثر، الأمر الذي جعل أمي تقول لي: “إذا عدت إلى ذلك الفعل سيخطفك النسر ويقتلك ويأكلك”.
وكان كلام أمي يجعلني راغبا في مشاهدة النسر، الذي لم يظهر لي قط، وكنت عند وصولي إلى تلك الجزيرة أنظر إلى الأعالي، وأنتظر، لكن لا شيء يأتي… كنت أنتظر مثل “غودو”. وغالبا ما كان يأتي هذا النسر في الحلم، فأتخيله ينقض علي بأظافره الغليظة ويطير بي في عنان السماء.
في أصيلة، ستكون لي مغامرات بحرية كبيرة. هاته المغامرات لم تكن سوى خليط من المتع: العلاقات الغرامية، الحشيش، القراءة، الأكل، الشراب وأشياء أخرى. إنه عالم المتع، والدراسة في الوقت عينه. كنت أعشق بحر أصيلة حد الخبال، لكن شيء ما تغير في أصيلة، بعد “منجزات ما”، بدت الأشياء متغيرة، ولم يعد ثمة سوى بقايا صور راسخة في الذاكرة عن فضاء بحري تلاشى دفعة واحدة، أو أصبح محاصرا. أما في شواطئ الساحل- المضيق، الفنيدق، وادي لو- ولكل شاطئ إسم، القريبة من تطوان، ذلك أن تطوان مدينة بلا بحر، فكانت فضاءات للقراءة، اللعب، المشي، صداقات خفيفة، الحضور الجسدي بكل توازنه، وجماله. ففي مرتيل، سأترجم بعض مقالات رولان بارث النقدية. أذكر مقالا بعنوان “تاسيت والباروكية المتشائمة”، وستصبح هذه المدينة مفضلة بالنسبة إلي لسنوات، غير أن كل شيء سيتغير، ولا تمكث سوى بقايا صور. هل يمكن لي أن أحيا من دون ذاكرة؟
إنه شيء غير قادر على احتماله.
هذا المساء، نزلت إلى شاطئ مرتيل، وجلست على حيز رملي، أنظر فقط إلى البحر الشاسع. قلت في سري، غير آبه بهراء بعض الفتيات: ” ربما، أنني جلست في زمن مضى في ذات الحيز الرملي، ولكنني لا أتذكر الآن”. الفتيات يستمررن في الهراء، وأنا أنظر إلى البحر الغائر، الممتد… أحس به يراق في أغواري… وتلامس أمواجه الوادعة قدماي اللتان ترسمان أثار خطواتي في الزمن الماضي.