أشكر بعمق جميع قراء “صدى تطوان” الذين تابعوا خلال هذا الشهر الكريم رواية “الشرفة” وسيروية “الرأس الكبير”، التي تنهي لويحاتها اليوم، وإلى كتاب آخر، إن شاء الله
يوسف خليل السباعي
اللويحات الخامسة:
41-
شهر كامل لوحدي في البيت.
لا أعيش سوى على الجبن والحليب إلى حد أنني أصبحت متوازنا في كل شيء.
-42
هذا التوازن سينعكس جليا في تطوان.
حياة رتيبة، عادية، لا يغير من حدتها سوى الاستغراق في القراءة حتى التخمة.
تخمة القراءة في تطوان كانت هي المنقذ الوحيد لي من أثر الذكريات، ورتابة الحياة، والإحساس العميق بالوحدة، بالرغم من أن الأسرة ماثلة…
أقمنا في منزل شاسع بشارع التهامي الوزاني… وكان هذا المنزل، الذي تركناه بعد مدة قصيرة، فضاء للعب، والقراءة، ومحاولة فهم واقع مدينة عشقتها منذ الصغر.
43-
مدينة بدأت في التحول. لكنها كانت مدينتي المفضلة منذ زمن طويل.
حمامة بيضاء كانت تنام على صدري، ثم تحلق في سماء
زرقاء ناصعة…
هذه المدينة حيث تقيم العائلة الكبيرة.
وقبل أن تلتحق الأسرة بكاملها إلى تطوان، ذلك أن والدي (خ.س)، هو رجل تعليم، إداري.
كان (خ.س) مديرا لإعدادية” الإمام الغزالي” ، التي تحولت اليوم إلى إعدادية ” عمر بن عبد العزيز”، حيث أقمنا فيها لمدة طويلة حتى حصل والدي على التقاعد.
قلت قبل ذلك، كنت أقيم مع جدتي ( ف)، مع أولادها، حيث احتضنتني لاستكمال دراساتي بكلية الآداب بتطوان. هذا المنزل كانت به غرفتان كبيرتان وأخرى للنوم وحمام و ومطبخ، وتعلقي بالعائلة وبجدتي على الخصوص هو الذي جعلني أكون معها، فهي كانت امرأة ناضجة، ومعقولة، ومحترمة، وفضيلة، إسم يدل على مكارمها، وكانت عطوفة، وصارمة في الوقت عينه. كانت ملامحها جميلة، وعندما كنت أتأمل في صورها في الماضي، كان يشع من الصور نور.
كانت أميرة.
وكنت في أوقات تعود بي الذاكرة إلى الصور التي كانت تحضنني فيها أمي في طفولتي. أمي أيضا كانت جميلة، وإلى حد اليوم حروف جمالها باقية… ماثلة وحاضرة بقوة.
في الكلية، ستكون لي علاقات غرامية محدودة، ولكنها ستكون فاشلة… ولا أحب أن أتكلم عنها. كانت علاقات عابرة. هاهنا المحاضرات المملة، التي كنت أفر منها، المدرجات الواسعة كأننا في داخل مسبح، الأساتذة المتلونين، والأكاديميين، الذين يجلبون الملل… الطلبة المتحمسون، لكن المناهضون لإدارة الكلية، حيث تتكاثر اللحي، ويسطع نجم الجينز، ويحتدم الغضب والنزاع، فيتدخل البوليس والحرس الجامعي. وبين الطلبة يندس المخبرون، وأفاعي الوشاية.
كنت من سأم المحاضرات أرتمي في أحضان كتب رولان بارث المتنوعة، وكنت أحمل دائما بين ذراعي كتاب ” الدرجة الصفر للكتابة” لرولان بارث، الذي ترجمه محمد برادة. كان هذا الكتاب لا يفارقني، وهو الذي جعلني فيما بعد أحب كل ماكتبه رولان وأترجم بعض نصوصه.
في الكلية، كانت لي لحظات استراحة، أقضيها في التأمل والاستفهام في داخل حديقتها.
كانت الحديقة شاسعة بها كراسي حديدية، وقاعة للشاي والقهوة يتجمع فيها الطلبة، وكنت أنا أفضل أن أرتوي من أشجار الحديقة وشساعتها. وما كان يزعجني كثيرا هو الأوتوبيس، الذي كنت أمقت الركوب فيه، ذلك أنني منذ صغري كنت أحب ركوب الطرولي، الذي اندثر، وكان يسير بأسلاك كهربائية في تطوان. وهكذا عوض الأوتوبيس القذر بكرشه الكبيرة، وبتطفله كان ثمة حنين للطرولي الفاخر، النقي، والنظيف، والذي كنت أحس وأنا راكب فيه أنني أعيش في مدينة حضارية.
44-
في مرحلة الكلية، كانت حياتي روتينية، عادية.
منزل جدتي، صداقات خفيفة، علاقات غرامية محدودة.
كنت دوما أحرص على أن يكون وجهي حليقا. لباسي مهندم، وسامتي لا يمكن لي أن أتحدث عنها، أدع الأمر للآخرين.
نظافة في كل شيء.
في العقل، والقلب، واليد.
لكن الشيء الوحيد الذي كان يسكنني منذ مراهقتي هو التمرد. هذا التمرد الذي جعلني لا أعترف بما يقوله لي الآخر، أو يأمرني به، وهو ما جعلني أتزوج بامرأة، ولم يكن يهمني أن توافق عليها أمي أولا توافق.
تزوجت ب ( س) ورزقني الله منها بثلاثة أطفال: (م)، (م) (خ).
وتلك حكاية ، جزء منها رواه السارد في روايتي ” ظلال الجرح”.
في مرحلة الكلية، كانت أحداث 84، حيث شاهدت المظاهرات… والاعتقالات… والمحاكمات…
نزل الجيش إلى الشارع، قتل من قتل، وسجن من سجن، ودفن من دفن، وفي النهاية توقف كل شيء بعد خطاب الملك الحسن الثاني.
أحداث لن ينساها التاريخ، ولن ينساها ضحايا أبرياء استقر الرصاص في أدمغتهم.
لم تشرق عليهم الشمس، ولكن سيشرق عليهم نور الله.
كانت الكلمة للسلاح، وكان رد الشعب قويا، لكن قوة الجيش كانت أقوى.
لا أعرف في ذلك اليوم المشئوم كيف وصلت إلى المنزل من فرط الخوف. جنود يفتشون حتى الهواء، لا أحد يسلم من قبضتهم: تعسف وفوضى.
كنت أحس وأنا أجري من باب الرواح حتى باب العقلة بأن رجلي يحلقان في السماء كطائر جريح. لم يلمحني أي جندي، ولم أسترد أنفاسي حتى وصلت إلى منزل جدتي.
45-
بعد تخرجي من كلية الآداب سنة 1988. كنت أنجزت بحثا عن رواية ” الفريق” لعبد الله العروي، وطلب مني الأستاذ المشرف أن أشتغل على منهجية ” منطق الممكنات السردية” لكلود بريمون.
كنت حين أبدأ في عملية الترجمة، حيث الدراسة طويلة، أشعر بإرهاق غريب، ومع ذلك استطعت أن أنجز الترجمة والبحث بنجاح كبير، فنلت الإجازة. وفي هذه اللحظة لم تعد تربطني بهذه الكلية سوى ذكريات حلوة ومريرة.
46-
كانت فترة ما بعد الإجازة فترة راحة.
الصيف على الأبواب.
كان بحر مرتيل يناديني، وهناك قضيت أوقاتا وساعات وشهور، بين القراءة والمشي ومصاحبة بعض الفتيات العابرات في حياتي.
لا عمل الآن سوى الترجمة، وعلى نحو ملائم، ترجمة نصوص رولان بارث التي لن أنشرها سوى في بداية التسعينيات في جريدة ” العلم”.
كنت أعشق المشي حد الخبال…
لم يكن المشي بالنسبة إلي سير على القدمين.
القدمين الماكرين، بل كان يمثل حركة في المكان والزمان.
أتذكر مشيي، في عز الحر، على رمال شاطئ مرتيل.
كنت أمشي تحت لهب الشمس، وأنا لا أقدر على النظر في وجه السماء البعيدة.
كان البحر الأزرق يجسد لي مدا، أفقا، عمقا وشساعة… شيئا غامضا كنسيج، أو كنص.
كنت ألتقي ببعض البنات في قلب البحر، وأنا أعوم وسطهن، يضحكن فأضحك، يقتربن مني فأقترب، يحصل شيء ما، تلامس…، ثم، أخرج…مودعا، بابتسامة، فيغصن في قاع البحر كما لوكن حوريات. هذا الأمر لم يكن يحدث باستمرار.
وفي كل خطوة تتراءى الجبال كما لو أنها تحييني، جبال كابونيكرو، الذي أصل إليه متوفرا، مملوءا بالفرح ( لي ذكريات جميلة في هذا الشاطئ)…، تلك الجبال المتسامية الأثيرة، بل والشامخة الشاهدة على كل تقلبات الزمن وتغيرات الإنسان والمجال.
سيتكرر المشي على رمال شاطئ مرتيل، وستصبح هذه المدينة، بعد الزواج، مقاما لي لمدة عامين، وستكون لي فيها ذكريات وعلاقات… ولقاءات سينمائية وثقافية وجماعية، كما أنها ستحضر بشكل كبير في روايتي ” ظلال الجرح”.
في تطوان سيصبح المشي عندي، ليس فقط تمرينا رياضيا، وإنما طريقة للتفكير، واختمار بعض الأفكار، ومعرفة بعض الأمكنة، حيث أنطلق من أمام محطة ” إيسو” إلى ” مرجان”، ثم أعود. لم أحب أبدا الركض، كما هو الحال بالنسبة للكاتب والروائي الياباني هاروكي موراكامي ( في سبتة، كنت أشاهد إسبان يحبون الركض في العشية. أكتفي بالنظر فقط)، أما أنا فلا أركض، أحب المشي كما لو كنت عابرا. ألم يكن الشاعر رامبو ” العابر الهائل” –كما قيل-، ويبقى المشي حركة، متعة، وحياة.
والخير كله في المشي…
وغير بعيد…
هروبا من اختناق مدينة تطوان، كمثل شخصية مجموعتي القصصية : ” العشب الأخضر”: تدور أحداثها في خيريس دي لا فرونتيرا، الرينكون، وتطوان، أجد نفسي في قلب الرينكون – المضيق- المدينة الجميلة، بنظافتها، وبحرها وطبيعتها.
في الرينكون ألتقي بأصدقاء آخرين، وبعالم مغاير، هناك حيث أجد الراحة، والفرح، والاستمتاع بالمشهد البحري، ويالجبال، كما لو أنني وسط جزيرة، الأمر الذي يستدعي كل ماهو حلمي، مخيالي.
في الرينكون: ثمة أيضا فضاءات للمتع: ” أمواج”، “مكسيم”، “كولدن بيتش”، “كوكودريلو”، ” شيكو”، ” بلايا”، حيث يحضر، الكلام، الموسيقى، الشراب، الأكل، الضحك، اكتشاف عالم الكائنات الليلية، وكل المتع.
الرينكون فضاء آخر للمتعة، للاسترواح والراح، وتوارد الأفكار.
كان ثقبا لهروبي من الاختناق الذي نعيشه (جميعا) في تطوان.
47-
بعد سنوات، سأغدو مراسلا صحفيا لجريدة ” العلم”، بفضل الكاتب والصحافي عبد الجبار السحيمي الذي كان آنذاك رئيس تحرير هذه الجريدة.
سنوات أخرى من العطاء الصحفي الملتزم، والمضني. لكنني لن أصنع إسمي سوى في ” العلم”.
في سنة 2011 سأغادر الجريدة، وألتحق مراسلا صحفيا لجريدة ” الشروق”.
كان عملي في ” الشروق” تحولا نوعيا.
كنت ملتزما، وأراسل الجريدة بست مقالات في اليوم، بتنوعاتها، لكن، مع الأسف، سيوقفها ممول الجريدة بعد استوزاره، وسيمنحنا تعويضاتنا المادية، وسيتفرق كل الصحافيين على منابر مختلفة.
48-
سأظل أشتغل في جريدة “تمودة تطوان”.
كان عملي في هذه الجريدة تطويرا لتجربتي في ” العلم” و “الشروق”، لكنها ستتوقف في 2015.
49-
الشمس تنير الطريق. وأنا أسير، لا أعرف أين أضع قدماي.
كان الانتقال من عالم الصحافة إلى عالم الأدب، القصة القصيرة والرواية، صدفة.
كان جمال “غ”، فاتنا، فكتبت عنها قصة قصيرة، ومن هنا بدأت أكتب، واستمررت في الكتابة بلا توقف.
رواياتي وقصصي القصيرة مطبوعة في كتب، وموزعة، وفي يد القراء…
لم تعد في ملكيتي.
أسير تحت الشمس وأنا فرحان مثل طفل يعود إلى حضن أمه: الأدب.
50-
في ليلة ينير فيها القمر أعماقي، أتذكر مراحل من حياتي، كنت سياسيا، لكنني كنت سياسيا مرنا، لا غشاشا ولا مخادعا، ولا طامعا في منصب، لكنني تدرجت، في مسؤوليات، كنت محسودا عليها، فتركتها.
كانت الانتخابات تمر بسرعة البرق، ويتكرر نفس السيناريو السياسي.
على أكتافنا صعد آخرون، لكنني كمثل آخرين عندما كنت أدخل إلى منزلي و أنظر إلى حذائي أجده ممزقا، بينما يتربع “العضو” الذي أوصلناه إلى كرسي المجلس الجماعي أو البرلمان مرتديا حذاءا جديدا لامعا، مشيحا بوجهه عنا.
51-
سأغادر الحزب الأول، لألتحق بالثاني. لا جديد سوى أنني سأتمكن من حصول على مكاني في الجريدة التابعة للحزب، وسأشتغل فيها وفي الحملة الانتخابية لسنة 2011 بكل حزم وعزيمة وقوة.
في الانتخابات التالية للمجلس الجماعي، ستكون الحملة ساخنة، وستنطلق وطنيا من تطوان.
في بداية التظاهرة، سيأتينني هاتف سماوي، سيجعلني أسير صوب الفتاة الشقراء الباهرة الجمال.
52-
مالذي جعلني أسير باتجاهها؟… كأن يدا سماوية دفعتني إلى حضنها.
وجهها مدور كالشمس، وعيناها ناصعتان كالقمر، وشفتيها عسل، يفصحان عن ابتسامة تنبجس من قلبها الكبير.
ابتسامة جعلتني أحبها من النظرة الأولى، بيد أنني لم أكن حيوانا يرغب في افتراسها.
كانت تجمعنا صداقة استمرت طويلا، لتتحول إلى علاقة حب نادر.
53-
لا أحد يستطيع أن يكتب سيرته كاملة، ثمة أسرار لا يمكن البوح بها، لأنها خطوط حمراء.
وأنا أسير في الطرقات يتبعني وجهها الشمسي…
كانت قادرة على حبي، وبادلتها نفس الحب…
لا أقدر على نسيانها…
أو الابتعاد عنها…، فالابتعاد عنها غياب.
إنها الآن نائمة، وأنا جالس على حافة سريرها أرمقها بعشق.
( تمت بحمد الله)