“ناتاليا” حدس تداعيات الهجرة، و تجربة غوص في فينومولوجيا “نخاسة جسد الأنثى”

الزهرة حمودان

رواية “ناتاليا”1 للروائي الذي أبانت تجربته هذه، عن اشتعال الوعي لديه بهم انساني، لبلده فيه نصيب يهد الجبال. كتبها يوسف خليل السباعي، ليقود القارئ نحو دهاليز ليل مغر، سبر أغواره شاب، قدم نفسه من خلال لعبة السرد أنه” كائن ليلي”2. حيث يهرع الليل مستقبلا القارئ على غلاف الرواية، متلفعا بسواد مدلهم، يخترقه بياض حروف رقيقة تحمل اسم الكاتب، ولوحة فتاة يملأ عينيها حزن أسود، كتب تحتها بلون أحمر اسم “ناتاليا”. سوداوية مهيمنة، صمتها موحش، في حضور تنافر، أحدثه لونان يستنطقان العتمة. أبيض يوحي بالضوء الكشاف المتسللة خيوطه نحو حلكتها. وأحمر يحيل على لون الدم الذي يراق على جوانب القضية / الألم بلون الأنثى، كما تناولها الكاتب.

“ناتاليا”، رواية تحمل سمات الرواية الواقعية:

اذا كانت الحياة في أوسع مقاييسها، حقيقة اجتماعية واقعة كما يقال، فان صلة الرواية بالحياة، عديدة ومتنوعة، و “الأدب في كل الحالات انتقاء من الحياة ذو طبيعة نوعية هادفة”3، و”ناتاليا” بصفتها عملا ينتمي لصنف الأدب فقد انتقى الكاتب موضوعها من الواقع، بتقنية مختلفة للواقع، و بمفهوم متميز للتخييل.

تتسرب الرواية من وعاء نفسي للكاتب، يأبى أن يصبه صافيا، فيعمل على مزجه بكوكتيل بمذاق الواقع، مادام “احتمال صحة التفاصيل، وسيلة للتضليل”4. عالم الليل الذكوري. بائعات الهوى. القضايا الجانبية الأخرى، التي لا تبتعد كثيرا عن موضوع الليل وأجوائه، كلها تفاصيل تضمن تماسك الهيكل العام لحلقات الحكي المكونة للرواية، وتسبغ عليها سمة الواقعية. عزل الكاتب الظاهرة عن مجالات تناولها، التي قد نجد منه الدراسات السوسيولوجية، والنفسية، والقانونية، وأدخلها لمختبره الخاص. أخضع الظاهرة للاختبار التجريبي، ولفها في لفافة سرد غاب عن لياليه، التشويق الأنثوي.

تقمص الكاتب، دور شهريار الذي يحكي عن شهرزاد العصر المتعددة الألسن والألوان. عن ليال سيقت الى سوق نخاستها جوار ممنوعات من الحكي. الموت لمن تحكي، بدل أن يكون الحكي هو سبيل الانتصار على الموت. شهريار ماسك للعبة السرد ، مشارك في الأحداث. جواريه، فتيات ليل، هن ضحية آلة تجارية، انعدم فيها الحس الانساني. تشابهت حكاياتهن: ” كلهن يا صديقي ناتاليا”5. القضية محفزة. و “في العمل الأدبي الرفيع ، يجب أن يزيد “التحفيز” من توهم الواقع”6 . هكذا حاك يوسف خليل السباعي حكيه، عبر تفاصيل ليال ايروسية، سداها أجساد أنثوية شردها الفقر عن أوطانها. و بما أن الفقر لا وطن له:

“لعنة الله على الفقر”7، فقد تساوت في القضية، مواطنات أوربا الشرقية مع البرازيليات، والروسيات مع المغربيات. اختلفت الجنسيات والهم واحد. تتوالى حلقات الحكي، عبر راو يحمل غصة جرح الأنثى المغربية. ويمتلك وعيا يحفزه على الدفع بالقضية الى مجالها الانساني الأوسع من خلال جعل فضاء الأحداث تجري خارج بلده المغرب، وإعطاء البطولة لأنثى أوروبية هي “ناتاليا”. انه كبرياء الرجل المغربي, عندما يتظاهر باللامبالاة، كمخرج له من الحرج .لما حاول أحد أصدقائه الاسبان أن يحكي له عن احدى الضحايا المغربيات. ” قل ما شئت”8 ، يرد عليه، ثم يستدرك و كأنه اكتشف أن صاحبه ، قد يتهمه بعدم اللياقة، عندما يشك في مدى استعداده للاستماع اليه، يستسلم على مضض قائلا :” سأسمع، أعدك سأسمع”9 .صاغ الكاتب من تفاصيل عالم الليل والدعارة، وتلازم القهر الانثوي مع الهجرة، حكايات شخوص، مختلفة النوازع و الميول، وفتيات عصفت بهن ظروف الفقر و الحاجة بكل ألوانها، لتلقي بهن في براثن ذئاب ليل بلا نجوم. مقتحما مشهد البداية، تحت غطاء خطاب مباشر محايد: ” انها فقط نظرة لا تشبه باقي النظرات. نظرة متوجسة تارة. و حائرة تارة أخرى”. 10 بداية يبصم بها روايته ببصمة الرواية الواقعية. لينطلق بعدها مفردا جناحيه، ملتقطا حكايا أنات الأنثى تحت سياط الاسترقاق.

” لم يعد ممكنا تجاهل الحاجة الى أسلوب واقعي في الكتابة اليوم. اذ اكتسب الأمر نوعا من الحتمية، في الوقت الذي تستخدم الطبقات الحاكمة الأكاذيب أكثر من أي وقت مضى.أكاذيب كبيرة تجعل من قول الحقيقة مهمة ضرورية، تزداد الحاحا. فالآلام طفحت، وكثر عدد الذين ينوؤون تحت و طأتها.”11

بهذا الحدس، نحت الكاتب موضوع روايته، ملامسا بذلك فينومولوجيا التجارة بجسد الأنثى،. حدس يبني معرفته ومرجعيته من خلال تجربة الهجرة كما عرفتها بعض فئات أهل بلده بصفة عامة، و قد أشار اليها في احدى ثنيات بنيات الحكي . يقول الكاتب على لسان البطل:

“كان لون المطعم برتقاليا ساخنا.جاء النادل، أدركت من ملامحه أنه مغربي،نحن الثلاثة مغاربة في هذه المطعم، قلت له : ما اسمك و من أي مدينة أنت؟قال: “من مدينة سوق الأربعاء، أمضيت سبع سنوات في العمل داخل هذه المطعم، انه يذكرني بأجدادي، وفي نفس الوقت آخذ أتعاب عرقي، و أعمل بجد. كما ترى الطلبات و تلبيات رغبات الزبائن لا تنتهي” جعلني كلامه أتذكر ناتاليا…..”.12 ليعود للامساك بتلابيب القضية الرئيسة ، من خلال شخصية ” ناتاليا” .

المعرفة التلقائية لدى الكاتب، بحكم تجربة بلده مع ظاهرة الهجرة بكل أصنافها، تمثل لديه أساس التفكير في انتقاء موضوع روايته، اندمجت و تفاعلت مفاهيمه الذاتية حول الظاهرة، فتولد لديه حدس خاص، على همسه قام بربط المعطيات المدركة و المحتملة، و شكلها في قالب روائي فني جمالي.

لاحق الكاتب ظل الأنثى في عالم الليل الاسباني، و قد اختار مدينة اشبيلية، كمكان غني بالدلالات ، شحنت الرواية بمحمول تاريخي انساني، يوحي بالكثير عن قضية الهجرة، وتحولاتها المفصلية عبر الأزمنة، وقلص عالمه المتخيل، حيث حدده في حيز مكاني يكاد لا يتخطى عتبات الملاهي، ليركز على عمق قضيته،فقدم الملاهي كمرتع للفحشاء، ومسرح للزنا، والزيجات الفاسدة، وأماكن للترفيه، استغلت استغلالا بشعا، من قبل قراصنة الفقر، والخبز المغموس بماء النخاسة، ودموع الأنثى، والوحشية الماجنة.

غير أن الكاتب، وبعيدا عن الكتابة التوثيقية، التي تناولت الظاهرة، من حيث تفشيها وانتشارها لظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية عالمية معينة. أخذ بمجموعة من ميكانيزمات البناء السردي، قصد اضفاء الرداء الجمالي على الرواية.وظف التاريخ الجميل للأنثى في الأندلس من خلال قصة الرميكية. ووظف رواية ” الخبز الحافي” للمرحوم محمد شكري، مشيرا بذلك الى الخيط الرفيع الذي تشترك به رواية شكري بروايته، و الذي قد يكون هو جرأة الطرح لقضايا تعتبر ” طابو” في المجتمعات العربية.هكذا تجيب رواية ” ناتاليا” على”… سؤال الخانة الفارغة، الذي يجعل من الرواية ، مستقبلا ، باستمرار محكوما عليها أن تنسى ماضيها، لتوجد من خلال نصوص تخلخل الأجوبة المكرسة، و اللغات المحنطة، و تشد الروائيين الى خانة السردي المبتذل، المنشق من صلب الحياة”13.

” ناتاليا” ووظيفة البعد العجائبي:

من بين حجري رحى الفقر، والقهر، تشردت صبايا عن أوطانهن. حصدن العواصف، عوض الأحلام الزائفة التي زرعها لهن صيادو الجسد الأنثوي، تجار المتع، نخاسو الرقيق الأبيض. تحولت حياتهن ليلا و استرقاقا و دعارة، وموتا مجانيا، فما بكت عليهن سماء و لا أرض.

كل هذا الألم مجتمعا، جسدته الرواية في شخصية “ناتاليا” لكن الكاتب يريد أن يصل بالقارئ الى أقصى تخوم هذا الواقع. قام بتوليد فضاءات عجائبية، من خلال إحدى متواليات الرواية، سماها الجزيرة الساحرة :
– “…بيد أن سؤالا عريضا كان يطن في رأسي، كصوت ذبابة مزعجة: كيف يمكن لي أن أتحدث عن شيء رأيته في المنام، ولم أره في الحقيقة.شيء مبثوث في الحلم، لكنه موجود في الواقع، أي واقع؟ فكل واحد يبني في أحلامه جزيرته الساحرة”14

بهذه التوطئة ألحم الكاتب وحدة “الجزيرة الساحرة” ذات الايهام العجائبي، بباقي وحدات السرد، ليفتح أمامه فضاء أوسع، يطلق فيه العنان لخياله كي يخلق عوالم أخرى، فيها مساحات أكبر للحرية، يستطيع أن يمارس فيها التفكير بصوت عال، وأن ينفس عن الهم الجاثم فوق صدره. يقول البطل في هذا السياق:
– “راقني جدا مركب القراصنة.ذكرني بأفلام القراصنة، ولا أدري لماذا عندما ولجته، فكرت في ترايان مرتديا ثياب قرصان، يهم بخطف ناتاليا كما لو كان يخطف مركبا في قلب البحر. ناتاليا الحسناء. كانت دموع ناتاليا تغرق بؤر المركب. كانت دموعا حقيقية لا دموع تماسيح”15

يلح الكاتب على الالتزام بقضيته، يزود نصه الروائي بكل ما يمكن أن يوحي بواقعية روايته، ايمانا منه بالحقيقة البشعة للقضية و جديتها. قد تكون ارهاصات كاتب ملتزم تلوح في أفق رواية “ناتاليا”. فهو يدس في تلافيفها جزئيات ذاتية.

يبثها نفحات من ذكرياته الخاصة، مقتطفات من طفولته. مشاهد و أخبار من مدينته. رابطا قضية هجرة الانسان المغربي، و بالخصوص الأنثى، بقضية المغاربة الكبرى، قضية الصحراء المغربية، من خلال قصيدة شاعر المغرب الكبير عبد الكريم الطبال، “حبة رمل”، ايحاء جميل جدا، وما أكثر الايحاءات الجميلة و المغرية بتتبعها في رواية “ناتاليا”، تستحق أن يفرد لها بحث خاص بها.

الاحـــــــــــــــــــــــالات

1- “ناتاليا” للكاتب يوسف خليل السباعي، نشر شركة تمودة ـ الطبعة الأولى ماي 2011 ص:38
2- كتاب ” نظرية الأدب”، تأليف رينيه ويليك و أوستن وارين، ترجمة محي الدين صبحي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، طبعة 1987، ص:221
3-
4- نفس المصدر السابق ص: 222
5- الرواية ص:32
6- “نظرية الأدب” ص”228 ، مصدر سابق.
7- الرواية : ص: 88
8- الرواية, ص 32
9- الرواية، ص 32
10- ” شعبية الأدب وواقعيته” لـ “برتولد بريخت”، ترجمة د.رضوى عاشور، مجلة عيون المقالات:11/1988، ص: 43
11- الرواية،ص:66
12- ” أسئلة الرواية، أسئلة النقد، حوار مستحيل، مقال للناقد و المفكر المغربي محمد برادة، نشر بمجلة آفاق، العدد لأول ربيع 1989
13- الرواية ، ص”41
14- الرواية ، ص 45

Loading...