الحلقة الرابعة من رواية “التطاونيات”: فطومة المغرمة بالمخطوطات

عبد الوهاب إيد الحاج.
كيف اختفت فطومة؟ وأين اختفت؟ وما هو سبب اختفائها؟ أم ربما اختطفت، ومن اختطفها؟ وما هو سبب اختطافها؟ كل هذه الأسئلة وأسئلة أخرى بدأت ترهق فِكر حليمة وأبيها. والغريب في الأمر هو أن فطومة هاته زوجة سي سلام لم تكن امرأة طائشة حتى يتصور البعض أنها هجرت ” سي سلام” لهوى في نفسها، بل فطومة هاته كانت امرأة مشهود لها بالأخلاق العالية والحشمة والوقار واحترامها للغير كما كانت متواضعة وتحب فعل الخير.
فطومة لم تكن امرأة عادية بل كانت مثقفة ومن أسرة عالمة ومناضلة أبا عن جد مما جعل منها امرأة واعية ومطلعة على خبايا الأمور وأسرار ما يدور من كواليس في المدينة العتيقة بتطوان.
فطومة هاته كانت مهتمة كثيرا بجمع المخطوطات والوثائق الأندلسية العريقة وصيانتها وترتيبها والمحافظة عليها وفي بعض الأحيان وضع خلاصة على هامشها وإعطائها عنوانا يعرف بمضمونها. كما ورثت خزانة كبيرة من الكتب والوثائق عن جدتها العالمة والفقيهة “راضية” التي كانت معروفة بعلمها الغزير. راضية هذه كانت مدافعة عن تعليم المرأة الخط العربي العريق بجميع أشكاله وأنواعه ومن مختلف مشاربه، كما كانت تربط الخط بالفنون الجميلة وبالحرف الفنية العريقة، كالكتابة على الجلد بخط فني جميل وعلى الثوب وعلى الأواني الفخارية وغيرها. وكانت بذلك تخلق تحفا فنية تبهر المشاهد.
والتفت حولها عديد من النساء وتطوعت لتعليمهن إتقان فنون الخط وطرق استعماله على قطع الصناعة التقليدية وعلى التحف الفنية الجميلة. هكذا أصبحت الأعمال المنجزة من طرف هذه النساء مطلوبة بكثرة داخل سوق الصناعة التقليدية بتطوان التي كانت تعرف ازدهارا وطلبا من جميع أنحاء العالم. فالتحف الفنية العريقة بتطوان كانت تبهر التجار والسياح والمثقفين من جميع الجنسيات. بالإضافة إلى الكتب التي كانت تخطها وتصففها، وفي بعض الأحيان كانت هذه المجموعة من النساء المكافحات والمتعلمات تقوم بتفسير الكتب.
راضية جدة فطومة اشتهرت أيضا بنداء قدمته لجميع ساكنة المدينة والذي أطلقت عليه “نداء المحافظة على المخطوطات”. وكان الهدف منه هو تحسيس الساكنة، بالخصوص النساء، على الاهتمام وجمع المخطوطات الموجودة بمنازلهن وصيانتها والمحافظة عليها وإعادة كتابة نسخ منها من طرف تلك النساء المكافحات، وفي وقت وجيز استطاعت راضية أن تحصل على آلاف النسخ من المخطوطات النفيسة والوثائق العريقة الموجودة لذا العائلات الأندلسية وغيرها.
عندما توفيت العالمة راضية ضمت فطومة كل المخطوطات والوثائق التاريخية التي كانت بحوزة جدتها لمخطوطاتها ووثائقها وأصبحت معروفة بمدينة تطوان بأنها تملك خزانا كبيرا من الوثائق النفيسة والمخطوطات الأندلسية العريقة غير المعروفة والتي لم ينشر مضمونها ومحتواها بعد.
ولتنظيم أكثر لهذا الموروث التراثي الضخم والكبير فكرت فطومة أن تضع الكتب على رفوف الخزانة الكبيرة وتجمع الوثائق والمخطوطات بصناديق جميلة ونظيفة لصيانتها.
كما استعانت ببعض صديقاتها في هذا العمل وكن يقمن بإعادة كتابة بعض المخطوطات التي أصبح من الصعب قراءتها، بخط جميل وبديع وكأنه الخط الأصلي للمخطوطة. وهذا لم يكن غريبا عن مدينة تطوان ولا عن المدن الأندلسية بصفة عامة، بحيث كان معروفا أن النساء لهن دور كبير في تدوين الكتب والمقالات كما أنهن كن خطاطات ماهرات. وكن يهتمن بجمع المخطوطات وصيانتها والمحافظة عليها داخل المنازل. لم تنس قط فطومة أقوال جدتها “راضية” عندما كانت تحكي لهم عن أسرار وخبايا الأندلس وعن المخطوطات التي ورثتها عن أجدادها، والتي كان للنساء دور كبير في نسخها والمحافظة عليها. كما كانت دائما ترفع من معنوياتها وتذكرها أنه حين كان يُحرَم على المرأة في أوروبا مس الانجيل لأنها في معتقداتهم رجس كانت توجد في حي واحد فقط بقرطبة 170 امرأة مسلمة تنسخن القرآن الكريم.
كانت فطومة تهتم بشكل كبير بهذا الخزان الوافر من الوثائق القديمة التي ورثتها عن أجدادها، وصنفتها تصنيفا ملائما بحيث جمعت الوثائق التي تهتم بالطب والوثائق التي تهتم بالفيزياء والفلك والوثائق التي تهتم بالرحلات والاكتشافات إلى غير ذلك من التصنيفات، ووضعت كل صنف في صندوق جميل المنظر ونظيف. كما عملت على صيانة كل هذه الوثائق وحفظها، وكلما دعت الضرورة للاطلاع على إحدى الوثائق أو أي معلومة كانت تجدها بكل سهولة.
أصبحت فطومة مغرمة بهذه الصناديق التحفة وتأثرت بها كثيرا بالخصوص عندما عثرت على مخطوطة مهمة جعلتها تتشبث أكثر بهذه الصناديق العجيبة. حيث إنها في أحد الأيام وهي ترمم صندوق الاكتشافات والرحلات وقع نظرها على وثيقة بها خريطة للأندلس ومنطقة ليشبونة البرتغالية والمحيط الأطلسي، لكن ما أثار انتباهها، وجود اليابسة ما وراء المحيط الأطلسي، فاستغربت كثيرا لهذا الامر، وقالت هذه اليابسة هي القارة الأمريكية لقد اكتشفت في عهد الأندلس، لقد خدعونا مرة أخرى وأعطونا معلومات خاطئة وروايات مضللة، لقد لقنوا لأجيال متعاقبة حتى صار أمرا مسلما به أن البحارة “كريستوف كولومب” هو الذي اكتشف هذه القارة. فأثار فضولها كل هذا وبدأت تقرأ الوثيقة بإمعان فوصلت إلى عجائب وغرائب لم تسمع بها من قبل.
حيث تبين لها من خلال الوثيقة الحية أن هناك تاريخ إسلامي كبير مخفي عن عمد مع سبق الإصرار والترصد، فالمسلمون هم من اكتشفوا أمريكا وعدد كبير من الهنود الحمر رحمهم الله أصبحوا مسلمين، والقسيس كريستوفر الذي يدعى أنه هو مكتشف أمريكا كان واعيًا وعيا كاملا بالوجود الإسلامي في أمريكا قبل مجيئه إليها.
كما عثرت فطومة على وثيقة مهمة أثرت فيها كثيرا. وهي وثيقة نفيسة تعيد الاعتبار للسيدة الحرة، حاكمة تطوان بعد ذلك الانقلاب المشبوه الذي دبر ضدها من الداخل.
وأصبحت فطومة متضامنة مع تاريخ وأمجاد السيدة الحرة وما قدمته لتطوان والتطاونيين بل المغرب والمغاربة أجمعين من خدمات جليلة ضد الغزو الإيبيري على المغرب.
فخلاصة الوثيقة تحكي أنه في 22 أكتوبر من سنة 1542م، وبينما مدينة تطوان في هدوئها المعهود وتعايشها المشهود، إذ دخلها بتكتم كبير جيش من الفرسان مجهز للقتال، وكان هدفه الوحيد هو الإطاحة بالسيدة الحرة من أعلى هرم الحكم بولاية تطوان والتي كانت تمتد آنذاك من جبل طارق إلى مدينة أصيلة. و فعلا تأتى لهؤلاء الانقلابين ما خططوا له بعناية فائقة، وحوصرت السيدة الحرة وحيدة من طرف عدة مقاتلين واقتيدت كسجينة إلى منفاها الاضطراري بمدينة شفشاون، وهي لم تتصور قط أن الخيانة ستأتيها من داخل عائلتها القريبة التي فسحت الطريق لهذا الجيش المجهز ليتسلل إلى منزلها في غفلة تامة منها ومن أفراد جيشها القوي.
هكذا سقطت أسطورة السيدة الحرة التي لا تقهر، حيث كان اسمها يرهب سكان شبه الجزيرة الإبيرية بصفة عامة والبرتغاليين بصفة خاصة، الذين كانوا يطلقون عليها اسم “عائشة الكورطيسا”، يعني عائشة الأميرة والتي تحولت فيما بعد إلى أسطورة “عائشة قنديشة”، وهناك من كان يطلق عليها اسم “عائشة البحرية” أو “أميرة البحر”. تعددت الألقاب على امتداد كل البحر الأبيض المتوسط وبوغاز جبل طارق، لكن جميع المصادر تشير إلى أن كل هاته الألقاب يقصد بها شخصية واحدة ووحيدة ألا وهي السيدة المقاتلة والمحاربة السيدة الحرة حاكمة تطوان وابنة القائد الكبيرعلي ابن راشد مؤسس مدينة شفشاون وحفيدة مولاي عبد السلام ابن مشيش وابنة السيدة للا زهور المرأة الإسبانية التي اعتنقت الإسلام وعملت في صمت لاسترجاع أمجاد الأندلس من جديد.
لم تنس حليمة ذلك اليوم الذي دخلت إلى المنزل ووجدت أمها فطومة جالسة على كرسي بمكتبها وهي مطأطئة الرأس تبكي وبيدها تلك الوثيقة عن السيدة الحرة. وعندما سألتها: لماذا هذا البكاء يا أماه؟ رفعت فطومة رأسها وعلى ملامحها أسا كبيرا ثم قالت: إنه لجور كبير وخيانة عظمى مورست على السيدة الحرة في غفلة منها يا ابنتي، هذه المرأة الربانية التي استمر حكمها أكثر من 18 سنة كلها حروب بحرية وبرية لحماية الشواطئ المغربية من الغزاة، وهي كلها أمل وطموح كبيرين لبناء الأندلس من جديد بتطوان: أندلس الرفاهية والازدهار والعلوم. ولم لا استرجاع الأندلس المفقودة، أندلس آبائها وأجدادها الموريسكيين التي أخذت منهم بالقوة وألقي بهم في البحر رغم أنهم إسبان الأصل أبا عن جد وكان ذنبهم الوحيد أنهم تحولوا إلى الإسلام.
من كتاب “التطاونيات” لكاتبه عبد الوهاب إيد الحاج
موعدنا الحلقة القادمة إن شاء الله.
وهذا عبد الوهاب إيدالحاج يبلغكم أحر التحيات وأجمل المتمنيات.
Loading...