يوسف خليل السباعي
سمعت صراخا قادما من ناحية العمارة المجاورة لبيتي..صراخ فظيع وغير مفهوم.. رج جدران البيت وشل حركتي
عن الخروج لمعرفة ماجرى.بيد أن حب الاستطلاع دفعني دفعا للنزول من البيت…جاء حارس العمارة تتبعه نسوة وأطفال صغار..وجوههم شاحبة، ومرتعبة من هول ما شاهدوه.
قلت للحارس: ماذا جرى؟
غير قادر على التطلع إلى وجهي، قال: فردوس رمت بنفسها من الطابق الرابع للعمارة.. لفظت أنفاسها في الحال. لن تستطيع رؤيتها..المسكينة
قلت له: هل شاهدتها. قال: أجل، ولم أقدر على رؤيتها، كان الدم ينزف من رأسها بغزارة..ولم أستطع مساعدتها، لم يكن بمقدوري أن أفعل شيئا..كانت الصدمة شديدة..
كنت أعرف فردوس معرفة جيدة مذ سكنت بالعمارة المجاورة لبيتي، كانت ظريفة، تلقي علي التحية في كل مرة كانت تصعد إلى المنزل… كان المنزل الذي تقطنه في ملكية كارلوس،وهي لم تكن تفارقه، قال بعض الجيران: انها زوجته، فيما ذهب آخرون إلى أنها عشيقة الإسباني… توقفت عن التفكير في الأمر..كان لابد لي أن أتحرك.. أن افعل شيئا.. لكن قدر الله كان سباقا إلى أخذ فردوس إلى جناحه.. احترت بمن أبدأ الاتصال، بسيارة الإسعاف.. أم برجال الشرطة.. كان لابد لي أن أتصل بالاثنين في نفس الوقت.. حضرت سيارة الإسعاف نقلت فردوس إلى مستودع الأموات بالمستشفى.. ثم بعد حين حضر رجال الشرطة… هؤلاء الرجال تحدثوا في أول الأمر مع الحارس.. واتجهوا نحو بعض الجيران، ثم نحوي لأخذ أقوالي…الهواء يزداد كثافة …. لم أقل لهم شيئا،لأنني أصلا لا أعرف ماحدث تحديدا.قلت مع نفسي: هل عرفوا شيئا ما. استبعدت فكرة قتل كارلوس لفردوس…لم أفكر في الأمر بتاتا..كنت دوما أتساءل : كيف يمكن للألفة أن تتحول إلى احتقار؟وكيف يمكن للحب أن يتحول إلى كراهية؟..لكني كنت أطمئن نفسي بأن المسالة تعود إلى الطبيعة البشرية التي تتلون كالحرباء.
تلك الليلة، لم أذق طعم النوم.. بقيت جالسا على كرسي داخل المطبخ… وألقي من حين لآخر نظرات من النافذة على القمر.. كان القمر ناصع البياض… يخفي سرا لابد أن ينكشف مهما طال الزمن.
في الصباح، التقيت أحد الجيران، أخبرني أن المحكمة ستنظر في قضية فردوس مساء، كنت سباقا إلى قاعة الجلسات ينتابني فضول قوي، وغريب…وإحساس لم أعرفه يوما ،شعرت بارتباك، لكني ضبطت نفسي بمجرد ما دخل القاضي وكل الهيئة إلى القاعة..احتراما له وقف الجميع..وقفت أنا أيضا..مسحت العرق الذي يتصبب من جبيني بمنديل كلينكس أبيض..واتخذت مكاني جنبا إلى جنب الحضور..كان المقعد بنيا..طويلا..نودي على كارلوس فدخل على كرسي متحرك، بدا على محياه نوع من الإرهاق والتعب… كان في الستين من عمره. كما نودي على المحلف. سأله القاضي: هل يمكنك الاستمرار في الجلسة حتى النهاية.
أجاب كارلوس بالإسبانية لاشيء يمنعني من ذلك.
واستطرد قائلا: كانت تربطني بفردوس علاقة عادية.. كانت خادمة عندي وتحضر للمنزل أربع مرات في الأسبوع.. لكني في الأيام الأخيرة أحضرت خادمة جديدة..وشاهدتها فردوس معي.. وكانت تتصل بي مرارا… ونفى أن يكون سببا في سقوطها من الطابق الرابع للمنزل.. وبعد تفكير، قال: هي من ألقت بنفسها من النافذة بإرادتها محاولة الانتحار.. وهو من أخرجها من منزل أسرتها بعد أن غادرته غاضبة… ونفى كارلوس أن يكون قد تعاطى للخمرة بأي وجه..
لما سمعت هذا الكلام، قلت مع نفسي: كيف يمكن للمسكينة أن تقدم على الإنتحار.كانت فردوس تغضب في بعض الأحيان..لكنها لم تكن تجرؤ على إذاية ولو قطة واحدة من قطط الحي..كانت ظريفة..ولاتغيب عنها الابتسامة ..رغم الحزن الذي كان يرتسم على محياها في كثير من الأحيان.فكيف لها أن تؤذي نفسها..
عدت إلى رشدي، لأتابع ما يجري من وقائع الجلسة..لاحظت أن القاضي يدلي، وهو يتكلم، في نفس الوقت، بصور الحادثة وبوجود منفضة سجائر مكسرة.استمع القاضي بعد ذلك إلى أسرة فردوس؛الساقطة من الطابق الرابع لم تكن خادمة، بل شريكة لكارلوس.. زارها يوم الحادث وهو غاضب أشد الغضب (وراح ما سكها من يدها وجرها ) إلى منزله بالعمارة. كان كارلوس ينظر ولا ينظر في آن..يسمع ولايسمع..وكنت أنا أراقب حركاته وتنفسه ودقات قلبه السريعة…
تكلم دفاع فردوس : فردوس لم تكن خادمة سيدي القاضي..كانت ستتزوج بشاب في عمرها..لكن كارلوس لم يستوعب ذلك جيدا..طلق زوجته بسببها، كان يحبها..علا قتهما سيدي القاضي كانت عاطفية في أبعادها..
كنت أستمع إلى مرافعة الدفاع مندهشا، لم أكن أعرف كل هذا…كل شيء كان يقع خلف باب مسدود… جدران البيت وحدها كانت تحس بعذابات فردوس…آه لوكنت هناك ساعتها لمنعت ذلك..
استطرد الدفاع قائلا: سقوط فردوس وقع بعد مدة وجيزة من إخراجها من منزلها..وتساءل: هل يعقل أن ينتحر شخص وهو يتمسك بالشرفة..ثم نظر إلى كارلوس ؛أنت الذي دفعها بعد شجار بينكما وكسرت منفضة السجائر.. وردد على مسامع الهيئة الموقرة:فردوس كانت ستتزوج، ولم تفكر يوما في أن تنتحر…ونظر في اتجاه القاضي، وقال بصوت جهوري: لقد دفع فردوس دفعا وهي بقيت متشبثة بالشرفة وهو يدفعها ويضرب يدها بعنف حتى سقطت على الأرض.. والتمس من هيئة المحكمة أن تنزل به أقصى العقوبات لفعله..
لم يرق كارلوس كلام الدفاع..رفع رأسه..وظل صامتا… اكتفى دفاع كارلوس بطلب الحكم ببراءة موكله.. وفي يده نتائج تشريح الطبيب الشرعي، حيث قال: لم ألحظ أي اثر للعنف على جسد فردوس.. كارلوس غير قادر من الناحية الجسمانية على اقتراف الفعل المنسوب إليه بسبب تقدمه في السن.
لكن الهيئة كان لها نظرها بناء على الحقائق وحكمت عليه بالسجن.
خرجت من قاعة الجلسات بالمحكمة.. نزلت من الدرج.. رميت بمنديل كلينكس أبيض كان في يدي في سلة مهملات بأسفل المحكمة…وتابعت المسير كان القمر بدرا مكتملا في السماء والشارع المحاذي للمحكمة فارغا إلا من السيارات ..رغبت في شرب فنجان قهوة..قصدت أقرب مقهى هناك.وامتد بصري إلى بناية المحكمة..كانت فارغة..يسكنها الليل…
من قصصي ” أسرار”