بقلم: عائشة بلحاج
يجلس الإنسانُ إلى طاولةِ الطبيعة مرّة في القرن- بالوتيرة الحالية- ليجتاز امتحان المرور إلى قرنٍ آخر من الوجود على الأرض؛ برأسٍ مطأطئ، وقلبٍ جَزع مثل تلميذ متخاذل، جاءه الامتحان على عجل، وما تحت يديه من حُروز (كلمة يطلقها المغاربة على الدّروس الملخصّة في أوراق صغيرة لاستعمالها في الغش) لا يشملُ إجابة هذا الامتحان. أوّل ما يحدثُ له هو التعرّق الشّديد مرفوقًا بضبابية النّظر، ثم تأخذهُ دوخةٌ خفيفة…إلى أن يهدأ أخيرًا، ويُقرّر استعمال عقله للخروج من هذه الورطة برأسٍ مرفوع، حتى لو كان محمّلًا بحصيلة ثقيلة من الخسارات.
وبعد أن “سقط” (رسب) في الامتحانات الجُزئية التي قَتل فيها، وسرق وتجبّر على غيره من الإنس -ولو لحق “عالم الجن” لتجبّر عليه أيضًا-؛ ها هو يواجه عدوًا غير إنساني، عدوٌ لا يفرق في اللّون، أو الولاء، أو المرتبة، أو الجغرافيا.
وبهذه المواجهة يخوض أوّلَ امتحان عالمي موحّد في العصر الحديث. فماذا لو سقط الإنسان في الامتحان؟
في بداية الجائحة، انتعشت السّيناريوهاتُ المتشائمة، وانتشر الحديث عن نهايةِ العالم، وسادت مشاهدُ سينمائية مرعبة لخلوِّ الأسواق من الطعام، وتصوّرات مخيفة لفيروس قاتل يتطور ويكتشف أساليب مختلفة للانتقال من إنسان إلى آخر، أدت إلى عجز كلّ وسائل الحماية عن منعه من الانتشار السريع. فوقف العالم حائرا وعاجزًا ومرتبكًا، لا يعرف ماذا يقدّم أو ما يؤخر. حينها كان السّؤال: هل سنعيش الكابوس الذي صوّرته روايات وأفلام كثيرة؟ ليفيق العالم على مدن ودول خالية من الإنسان، ما عدا شخص واحد، أو جماعة صغيرة من الناس، تبقى على قيد الحياة – لضرورات الحِبكة- كي تشهد عالم ما بعد الفناء؟
بعد انجلاء غيمة الخوف، وتبيّنِ حقيقة الوضع، لم يعد السّؤالُ السّابق إلا انعكاسًا مضحكًا لسرعة هلع الإنسان المعاصر، الذي سيخجلُ من فشله في هذه المرحلة. ليصبح السّؤال الآن: كيف نسترجعُ الإيقاع العادي للحياة، بسرعة تَقينا خسائر أكبر؟ وكيف ستكون الحياة في ظل وجود الفيروس في الأجواء، بعد إدراك خطورة تجاهل مصائر أفواج الجالسين في البيت من دون عمل، ولا مصدر رزق؟ وكان انكشافُ زيف كثير من الوعود، خاصة في الدّول النامية التي عجزت عن منح المساعدات التي وعدت بها، أول مظاهر الأزمة الحادة التي تلوح في الأفق، بما أننا ندخل الشّهر الثالث من الحجر في كثير من دول العالم. فهل سينتظر الجوعى ذهاب وباء لا يبدو أنه مستعد للذهاب الآن؟ وهل كان متّخذو قرارات الإغلاق، ليتوقّعوا يومًا هذا الإيقاف الشامل للاقتصاد العالمي، في أسوأ التكهنات بمصير البشر؟ ومن توقّف لحظةً للتفكير فيما ما بعد شهور الإغلاق، والآثار المهولة لعدم دوران عجلة الحياة العادية، والملايير من الناس الذين لن يجدوا ما يأكلون؟ بعدما تبيّن في النهاية أنّ الاحتياجات الطبيعية هي الأساس: الأكل والسّكن والدواء والتواصل الذي عوّض فيه الإنترنت اللقاء المباشر، ومِن دونها فليأت الوباء وليحصد ما يشاء.
ظهر الخوف من خروجٍ محتمل للاحتجاج على الوضعِ الاقتصادي المُجمَّد. ورغم أنّ الإنسان تكيّف سابقًا مع الأوضاع، ويشهد على ذلك تاريخٌ من الكوارث والحروب والمجاعات، التي نجا منها بأعجوبة، وعاد أقوى مما كان.
لكن الآثار المدمّرة تحمّلها الجيل الذي عاش الكارثة، وهذا الجيل لا يرغب في ذلك، إنّه جيلُ التطوّر التكنولوجي الأكبر، والتجلّي الأكبر للفرد كعنصر أساسي في الوجود. وكلّ ما يريده أن ينجو هو، وقد لا يعنيه الجيل القادم في شيء.
وإذا كان الأدب ملجأَ كثيرين للبحث عن تجارب الإنسان مع الأوبئة، يمكننا أن نستحضره في سيناريوهات ما بعد العدوى، وما بعد مرحلة الصّدمة الأولى. ورغم تشاءم بعض الرّوايات من مصير العالم بعد الأوبئة، إلّا أنّها لم تُعرّض الإنسان لخطر الزوال في نوعه، لكن الضحايا كانوا كثرًا. وباللّجوء إلى منطق الحتمية، عرضَ الرّوائيون طُرق تعايش النّاجين مع الأوضاع مهما ساءت، فيما سقط الآخرون في العدم.
في رواية “بلاد الأشياء الأخيرة” لبول أوستر -العمل المفضّل لديّ- من بين الأعمال التي اشتغلت على تيمة انهيار العالم، تحدُث الحياة التي تأتي بعد الفوضى وفقدان البوصلة. ويكون سبب تهديد الإنسان بالفناء هو فقدان التوازن، والضياع والانهزام قبل الأوان، هو الذي بدأ من الصّفر، من لا شيء، حين وُجد على الأرض. وكان عليه اختراع الحياة التي يعيشها الآن، وكلّ هذه الآلات التي تقارع الطبيعة في قوتها، وتهزمها في كثير من الحالات.
هذا الإنسان صُدم، وأُخذ على حين غرّة، ولم يستطع فعل شيء لتجاوز وباء، أو فيروس، أو كارثة طبيعية غير متوقّعة ولا مسبوقة. إذ كيف تواجهُ ما لا تعرف مصدره؟ لذا اكتفى بإعادة تدوير الأشياء الأخيرة المتبقيّة من حضارته، وإنسانيته في مشاهد بالغة السّوداوية.
بينما نجد أن الوضع كان سيّئًا للغاية في “العمى” لجوزيف ساراماغو، لأنّنا نشهد لحظة الانطلاق، التي حدثت في يوم عادي، خرج فيه رجلٌ متوجهًا إلى مكانٍ ما، ثم فجأة حدث شيء كارثي لقد فقد بصره من دون أيّ سبب أو مؤشّر مسبق. ثم فقد الجميع مِن حوله بصرهم تباعًا، ما عدا زوجته التي ستشهد على ما يحدث، وما ستعيشه البشرية من انحطاط، فقط لأنّ الجميع أصبحوا عميانًا. هنا يفقدُ الإنسان الرّؤيةَ والنّظر والبصر، وكل ما يجعله قادرًا على السّيطرة على العالم. كيف تواجه ما لا تراه؟ لكن فجأة عاد البصر، وانتهى الوباء كما جاء بلا سبب واضح، ورأى الإنسان حينها مآله، وكان ذلك أسوأ مما عاشه في العتمة، لأنّه واجه بدائيته بعينيه.
في “حرب الكلب الثانية” لإبراهيم نصر الله، يرتفع سعر المريض، وتُتاجر شركات سيارات الإسعاف مع المستشفيات الخاصة؛ مقابل كل مريض هنا نسبة ربح، ولكن لا يمرض الجميع. فحتى في الوباء الذي يجتاح العالم هناك تمييز، والأغنياء والأقوياء لهم اللّقاح ولهم الحياة، وللآخرين البؤس والموت. إنّه عملٌ مكتوب في منطقة غير ديموقراطية، ولابد من أن تتسرب خصائصها إلى الأدب. هنا كيف يمكن للإنسان أن يواجه ما حُرم من القدرة على مواجهته؟
وفي لحظتنا هذه، تنضج روايات في عتمة الوباء، وسنعرف غزارة كبيرة في الإنتاج، مع تفاوت هائل في المستوى.
سنقرأ أعمالًا عميقة في تحليلها لما عشناه جميعًا ونعيشه، ولن نُمانع ذلك، لأنّها وجهة نظر أخرى، نتأمّل عبرها الحدث من خلال آخرين، قد يقدّمون ما عجزنا عنه من أسئلة وأجوبة. لكنّنا سنتحمل في المقابل، إسهالًا رهيبًا في الأعمال المشتغلة على كورونا كعنوان وكثيمة سطحية.
سنرى عناوين من قبيل “حرب الكمامات” “الحب في زمن الكورونا” “كوفيد 19” وغيرها. وسنتحمل مع ذلك، لأنّها ضريبة عملية الهضم البشري لكارثة عالمية، أوقفت العالم إلى الجدار كتلميذٍ متهاون، أمام معلّم قاس. ووسط هذه الكثرة يُنتج الإنسان أدبًا عظيمًا يقدّم فيه خلاصات الامتحان. لكن هل سيعني ذلك أنّ العالم سيتّعظ، وسيُخفف ركضه المجنون نحو وهمِ الرّبح؟ لا أظنُّ ذلك.