“أعطَيتِنِي طِينَكِ فَصَنَعتُ مِنهُ الذَّهَب”

رفعت سلام

….وفي 25 يونيو 1857 صدرت الطبعة الأولى من “أزهار الشَّـر”

“إن الكتاب الصغير، “أزهار الشر”، الذي لاَ يزيد عن ثلاثمائة صفحة، يفوق في القيمة، بالمعيار الأدبي، أكثر الأعمال ضخامةً وشُهرة. لقد تُرجم إلى غالبية اللغات الأوروبية. وهي حقيقة سأتوقف عندها برهةً، لأنها- فيما أعتقد- بلا سابقة في تاريخ الأدب الفرنسي”.

ذلك ما كتبه بول ڤاليري عن “أزهار الشَّر”، ديوان بودلير الشهير، الذي صدر في 25 يونيو 1857، في 1100 نسخة، بسعر ثلاثة فرنكات للنسخة. لكنه كتبه بعد أكثر من نصف قرن من صدور “الديوان الصغير”.

فكيف كان لمعاصريه- شعراء ونقادًا وصحفيين- أن يدركوا أن هذا الديوان الصغير، للشاعر الذي لم يتجاوز عُمر الشباب، سيكون ألمع ما أنتجه القرن شعريًّا، بما انطوى عليه من فتوحات لاَ تُستنفَد؟

لن يدرك ذلك سوى ڤيكتور هوجو- ببصيرته الخارقة- حين كتب له: “إنك تخلق رعشةً جديدةً في الشعر الفرنسي”.
وقبل مرور أسبوعين على صدور الديوان، يتم تقديم بودلير وناشرَيه إلى المحاكمة بتهمة انتهاك الأخلاق العامة. وتطالب النيابة العامة بحذف 10 قصائد، ست منها بحجة إهانة الأخلاق العامة، وأربع بحجة إهانة الأخلاق المسيحية.

فعلاً، كان الديوان “الصغير”- بمصطلح ڤاليري- قفزةً خارج السياق؛ لا السياق الشعري الفرنسي وحده، بل “الأوروبي” كله، الذي كان محكومًا بهيمنة “الرومانتيكية”، وظلال القامات الكبرى لشعرائها. ولابد أن بودلير قد أدرك ذلك مبكرًا: أن “شعراء مشهورين تقاسموا فيما بينهم منذ أمدٍ بعيد أكثر الأقاليم ازدهارًا في المجال الشعري”، مستندًا- في إدراكه- إلى ما رصده سانت-بيف (الناقد المرموق للمرحلة): “كل شيءٍ قد تم الاستيلاء عليه في مجال الشعر. استولى لامارتين على السماوات. واستولى ڤيكتور هوجو على الأرض، وما هو أكثر من الأرض. ولابراد استولى على الغابات. واستولى موسِّيه على العاطفة والعربدة الباهرة. واستولى آخرون على البيت، والحياة الزراعية، إلخ”.
لكنه- مبكرًا، أيضًا، في 1838- كان يراقب هذا الازدهار بعين يقظة، ويقرأ كل ما كُتب خلال العقدين الأخيرين؛ فيكتب إلى أمه في 3 أغسطس 1838: “لم أقرأ سوى أعمال حديثة؛ لكن من تلك الأعمال التي يتحدثون عنها في كل مكان، ولها سمعة، ويقرأها كل الناس..؛ آه حسنًا، كل ذلك زائف، مبالغٌ فيه، ومهووس، ومفتعَل.. إنني متقزز من كل ذلك: ليس هناك سوى مسرحيات وأشعار ڤيكتور هوجو وكتاب لسانت-بيف (شهوة) التي أمتعتني. إنني قرفان تمامًا من الأدب؛ وفي الحقيقة، فمنذ عرفت القراءة، لم أعثر بعد على عمل يمتعني تمامًا، ويمكن أن أحبه من أوله إلى آخره”.
فما الذي تبقَّى له؟
سيكتب بودلير في أحد مشروعات مقدمة “أزهار الشر”: “لقد تقاسم شعراء مشهورون فيما بينهم- منذ أمدٍ بعيد- أكثر الأقاليم ازدهارًا في المجال الشعري. لقد بدا لي ذلك سارًّا، بل أكثر إمتاعًا لأن المهمة كانت أصعب، وهي استنباط الجمال من الشر”: “الوعي في الشَّر”، “لأنَّنِي أُرِيدُ البَحثَ عَن خُلاَصَةِ الشَّر”، كما يقول في قصيدة له.
إنه “الوعي”. الوعي بدور “الوعي” في الإبداع، بالخروج- أيضًا- على السياق الرومانتيكي، الذي يُحِل “الوحي” والإلهام أداة للإبداع، طالما اعتبروا “الشعور” والعاطفة مركز ومنطلق الإبداع.
و”الوعي” هو ما يخرجه عن السياق السائد، ويكتشف له بؤرته الشعرية الفريدة: “استنباط الجمال من الشر”؛ بؤرة لم يكن الوعي “العام” بقادر على استيعابها، آنذاك، وتمثلها. وهو ما أفضى به إلى المحاكمة، في الشهر التالي مباشرة لصدور الديوان الفريد، بعد التحريض عليه من جريدة “الفيجارو” المحافظة.
هنا، يصبح الوعي فاعلاً أساسيًّا مُدرَكًا- ربما لأول مرة في التاريخ الشعري- في التأسيس للتجربة الشعرية وتحقيقها. فهو ما يحدد منطلَق التجربة، ويراعي تحققها خطوةً خطوة، وصولاً إلى الصياغة النهائية للديوان (ليس الديوان- “أزهار الشر”- في وعي بودلير، تجميعًا لما كُتب في السابق من قصائد منفردة، بل “بنية” فنية محسوبة بدقة، بعدد القصائد- مئة قصيدة، وتوزيعها على أقسام محددة، ذات خيط “سُري” سِري). وأكثر ما أزعج بودلير في الحكم بحذف ست من قصائد الديوان، هو إرباك هذه البنية “المحسوبة”، والتشويش على التجربة الشعرية. فنسق ترتيب القصائد يحدد الشكل الخاص للديوان، ويؤسس المعنى الذي سيستمده القارئ، فيما يؤدي الحذف إلى تغيير الشكل والمعنى معًا. بل وصل الأمر إلى حد تحديده للقصائد المطلوب كتابتها لتحقيق بنية العمل/الديوان، واختيار عناوين للقصائد، ورصد بعض الملاحظات التي ستدخل بنية القصيدة (نكتشف ذلك من مخطوطاته).
كتابٌ ذو بداية ونهاية، وأقسامه تم اختيارها قصديًّا واحدًا وراء الآخر، في إطار محدد. كتابٌ تتحد فيه القصائد أحيانًا في “دوائر”، فيما تتخذ عناصر أخرى قيمةً ترجع إلى الترابط أو التضاد، مثلما في التجاور البسيط. وهذا “المعمار السري” يفسر لنا اعتبار إيڤ بونفوا: أزهار الشر هو “سيد الكتب في شعرنا”.
وكان لابد لهذا الوعي- في المقابل- من اكتشاف “الحداثة”، ليتحقق اكتمال التجربة المؤسسة، شعريًّا وثقافيًّا.
ففي مقالته “رسام الحياة الحديثة”، يستخدم بودلير مصطلح “الحداثة” لأول مرة في الكتابات النقدية، في حديثه عما يميز الفنان الحديث (وكأنه يتحدث عن نفسه): “هكذا يمضي، يجري، يبحث. فعمَّ يبحث؟ بالتأكيد، هذا الرجل، كما وصفته، هذا المنعزل الموهوب خيالاً نشطًا، الرحَّالة دائمًا عبر صحراء البشر العظيمة، إلى غاية أسمَى من غاية متسكع خالص، غاية أكثر عمومية، غاية غير المتعة العابرة للمناسبة. إنه يبحث عن ذلك الشيء الذي سنسمح لأنفسنا بتسميته الحداثة؛ لأنه لاَ تتوفر كلمة أفضل للتعبير عن الفكرة الحالية.. وهو ما يعني، بالنسبة له، أن يستخلص من الحالة.. الشعريَّ من التاريخي، وأن يستمد الأبديَّ من الانتقالي”.
ويزيد تحديد المصطلح: “الحداثة، هي العابر، الهارب، العارض”. ولأن المفهوم جديدٌ تمامًا، فإنه يُضطر للدفاع عنه: “هذا العنصر العابر، الهارب، الذي تتكرر أشكاله المتحولة، ليس لديكم الحق في ازدرائه أو تجاهله. فبإلغائه ستقعون لاَ محالة في خواء جمالٍ مجرد ومُبهَم، مثل جمال المرأة الوحيدة قبل الخطيئة الأولى”.
هي الحياة في صحراء المدينة الكبيرة- المزدحمة بالبشر والحركة العارمة المحمومة المتضاربة، كخلية نحل- التي سيطرت عليها الصناعة والتجارة، فلا يرى الفنان فحسب سقوط الإنسان، بل يحس أيضًا بنوع من الجمال الغامض الذي لم يسبق اكتشافه.
وفي مشروع خاتمة لديوان “أزهار الشر”، يخاطب بودلير مدينته باريس:
إِنَّنِي استَخلَصتُ مِن كُلِّ شَيءٍ الجَوهَر،
أعطَيتِنِي طِينَكِ فَصَنَعتُ مِنهُ الذَّهَب.
وفي موضع آخر، يكرر الفكرة بطريقة شبه كاملة:
عَجَنتُ الطِّينَ وَصَنَعتُ مِنهُ الذَّهَب.
ولم يكن هذا “الطين” سوى ركام المدينة، المادي والإنساني، أطلالها الحجرية والبشرية. حانات القاع، والمقابر، والدعارة، والمسوخ، والمقعدون، والموتى. فالمدينة تمارس على المتجول فيها فعلاً يتخذ شكل الصدمة.
واختيار المدينة هذا هو- بالتأكيد- أحد مفاتيح الحداثة البودليرية. وهو ما سيؤكده ت. إس. إليوت بعد قرابة قرن: “أعتقد أنني قد تعلمتُ من بودلير (..) المظاهر الشائنة للمدينة الحديثة بالذات، وإمكانية انصهار الواقعية الأكثر قذارةً فيها والرؤى الخارقة، إمكانية تجاور المبتذل والخيالي. منه، كما من لافورج، تعلمت أن المادة التي توفرتُ عليها، والتجربة التي توفرتُ عليها، كمراهق، في مدينة صناعية بالولايات المتحدة، كان يمكن أن تكون مادةً شعرية؛ وأن منبع الشعر الجديد كان يمكن أن يكون اكتشافًا فيما يمكن اعتباره حتى الآن كواقع عصي، عقيم، لاَ شعري بصورة لاَ تُرَد”.
هو قاع المدينة، والانتباه الرءوف إلى تلك “الجماهير المريضة”، إلى “النَّاسِ المُنهَكِين بِالهُمُومِ المَنزِلِيَّة،/ المَطحُونينَ بِالعَمَل، المُعَذَّبينَ بِالزَّمَن،/ المُرهَقِينَ المَحنِيِّين تَحتَ رُكَامِ الأنقَاض،/ القَيء الغَامِض لِبَارِيسَ الضَّخمَة”؛ فيما يتكشف عن الوعي بالمظالم الاجتماعية، حتى لو كان هذا الوعي- بالاختلاف مع هوجو- لن يقوده أبدًا إلى تبنِّي عقيدة التقدم الاجتماعي، الشهيرة آنذاك.
لكنها مدينةٌ موسومةٌ أيضًا بالشيخوخة. فمن “الشيوخ السبعة” إلى “العجائز القصيرات”، يُضاعف الديوان من إشارات الوهن التي تسِم “الثنايا الآثمة” لـ”العاصمة العتيقة”، شأن جباه سكانها. والمفارقة أن هذا الوعي بالشيخوخة هو- بالفعل- أحد مفاتيح جِدَّة الديوان. ففي قصيدة “بياتريس”، بعدما تذكر بودلير تهكم الشياطين المفعم بالسخرية، يستحضر رد الفعل الذي يمكن أن يقوم به، رد فعل الشعراء الرومانتيكيين، أسلافه، القائم على كِبرِيَاء “بِارتِفَاعِ الجِبَال/ يُشرِفُ عَلَى الغَيمَةِ وَصُرَاخِ الشَّيَاطِين”، إلى “أن أُدِيرَ رَأسِيَ السَّامِيَةَ بِبَسَاطَة”. وهذا السمو هو بالتحديد ما فقده العجائز، “أنقَاض إِنسَانِيَّةٍ نَاضِجَة مِن أجلِ الأبَدِيَّة”، تلك “الأطلال” التي قال عنها إنها “عائلته”. وفجأةً، مع هذا الفقدان لـ”وهم” السمو، ينفتح الفصل الأليم للاغتراب والتعاسة.
فالقارئ مدعُو- في الديوان- إلى مسرح حزن أو جفاف داخلي، إلى رسم صورة موضوعيةٍ متشيئة، إلى حد عدم القدرة على الإشارة- في بعض الأحيان- إلاَّ إلى العناصر غير الذاتية. وقصائد السأم تصور بالأساس حالة روح معذَّبة في إحساسها بنفسها، وذلك من خلال العلاقة بين هذه الروح والآخر، التي يمكن خلالها أن نرى- بطريقة أكثر وضوحًا- شارات الاغتراب.
وفي ظل هذا الاغتراب، يتحقق- في “أزهار الشر”- الارتباط بين الحب والألم، المتعارض مع المفهوم المسيحي، ومع مثالية أي ڤيكتور هوجو. وهو المسئول عن الصور التي صدمت كثيرًا بعض معاصريه. والتعارض، الذي يجعل من الكراهية الرفيق اللصيق للحب، الذي يقود العاشق إلى الإحساس بعاطفته كعبء لاَ يُحتَمل، يُغذِّي رغبةً لاَ تتحقق إلاَّ في تخيل عِقاب قاس بصورة سادية. “أكرَهُكِ بِقَدرِ مَا أُحِبُّك!”، يعلن الشاعر: “هَكَذَا أُرِيدُ، ذَاتَ لَيلَة،/ عِندَمَا تَدُقُّ سَاعَةُ الشَّهوَة،/ أن أزحَفَ بِلاَ صَوتٍ، كَجَبَان،/ نَحوَ كُنُوزِ جَسَدِك،/ لأُهَذِّبَ جَسَدَكِ المُبتَهِج،/ لأجرَحَ صَدرَكِ المُتَسَامِح،/ وَأرتَكِبَ فِي خَصرِكِ المَذهُول/ جُرحًا كَبِيرًا وَغَائِرًا،/ وَعَبرَ هَذِهِ الشِّفَاهِ الجَدِيدَة،/ الأكثَر صَخَبًا وَجَمَالاً،/ أيَّتُهَا العُذُوبَةُ المُدَوِّخَة! / أبُثَّ فِيكِ سُمِّي، يَا أُختِي!”
فـ”السُّم” رمزٌ للسأم أو للكآبة، والرغبة لاَ تنكشف إلاَّ في نزوع تدميري هو- بالتحديد- أحد أشكال الألم. وخارج القسوة، تكشف قصيدة “إلى تلك المبتهجة للغاية” مُقومًا آخر للروح البودليرية: السخط، لاَ كتعبير متفاقم عن استثارة مُعذَّبَة، بل شارة يأس ميتافيزيقي.

ولا تنفد الدلالات، ولا تكتمل الإحاطة.
ويظل “أزهار الشر” تجربة شعرية عصية، لا تنفد، ولا تُستنفد. لا تستهلكه القراءات والزمن، ولا تلمسه عوامل التعرية الإبداعية والثقافية.. شاهدًا على قدرة الوعي والخيال الإنساني، في أقصى تجلياتها.

Loading...