الرّجل الذي يحسن التفكير

عائشة بلحاج

“المثقف هو الرّجل الذي يُحسن التفكير” حسب علي شريعتي. فهل يحسن مثقفونا التّفكير؟ وهل لابد لمن يُحسن التفكير أن يكون رجلًا؟ وهذا السؤال ليس موجها إلى ميراث علي شريعتي بشكل خاص، بل إلى النظرة العامة للمثقف التي غالبا ما تراه رجلًا. وربما هذه مسألة متفرّعة عما نريد الخوض فيه، لكنها تُحيل على جوهره؛ فالمثقف الذي قد يكون سابقًا لعصره، لا يسبقه للأسف في مجال التّفكير في مبدأ المساواة، الذي يجعل البشر جميعًا، نساء ورجالا -وبكل الأعراق- متساوين في التفكير والصّفات البشرية، ولكنه يبقى انعكاسًا لمجتمعه في التمييز وفق الجنس واللون والعرق.

يقع المثقف المبدع مثلا، في زلات أخلاقية كبيرة أثناء كتابته، تبقى شاهدة على تناقضه إلى آخر يوم في حياة كُتبه. ورغم تكرارها إلا أن هذه الملاحظة تفاجئني كلما وقعتُ على عملٍ مدهش في قوّة الإبداع فيه، بحيث يجعلك تقف وتصفق إعجابا لكاتبه، لكنه يصدمك في صفحة ما، بموقف يذهب إلى نقيض ذلك كله، خاصة حين يتعلق الأمر بالمرأة، أو بالأطفال؛ مثلا تجد كاتبًا أوروبيًا يكتب عن اشتهائه لطفلة قاصر في بداية القرن العشرين، أو منتصفه. ما يجعلك تقف متسائلا عن مشروعه ككلّ؛ هل هو أصيل؟ هل مبادئه التي يعبر عنها والتي تشي بعقلٍ فريد، حقيقية أو زائفة؟ لأنّ هناك أشياء فطرية في تمثّلها قد تغيب عن الإنسان الجاهل، الذي هو ضحية منظومة اجتماعية معينة، لكنها لا يمكن أن تغيب عن مثقف كبير، إلّا إذا كان مصابًا بالانفصام أو مريضا بالبيدوفيليا -في هذا المثال- أو عنصريا متعصبا إذا تعلق الأمر بأحكام قيمة تحقيرية في حق شعوب وأعراق وثقافات أخرى.

وبالعودة إلى الجزء المتعلق بصفات المثقف المفكر، وما إذا كان مثقّفونا يحسنون التفكير. نقدّم مثال الكاتب الراحل أيمن عبد الرسول الذي انتقد في كتابه: “في نقد السلطة والمثقف والإرهاب” المثقفَ العربي وأشكال تمظهراته الفعلية، حيث يقول إن: “المثقف العربي انتحر عندما آمن بأن دوره هو نسج قصائد تلحس قدم الخليفة وتمجد عرش السلطان، فآثر العزلة والتقوقع، وأخيرا مات منتحرا بالإيديولوجيا والفلسفات المغتربة عن روح الجماهير “. لكن أيمن عبد الرسول في كتابه، كان أيضًا صاحب موقف إيديولوجي، ولم يكن نقده خاليًا من التحامل، في التفريق بين ما يواجه المثقف وما يسعى إليه. ولم يُنصف المثقفين العرب أيام الشعراء المداحين، الذين كانوا يفكّرون ويكتبون بعيدا عن القصور ووعود الرّخاء.

ولذلك، نشعر أن الكتابات عن المثقف تنحدر بمرور الزمن، ليس بالمعنى المعرفي، بل الحديث هنا عن الانحدار الأخلاقي للمثقف. والجدل الذي رافق مقال سليم بركات عن محمود درويش، دليلٌ حي وقريب جدًا مما نتحدث عنه؛ ففي وقت بالغ السّوء يعيشه العالم بأسره، يُثير مقال شاعر عن حياة شاعر آخر ضجة هائلة، هزّت الوسط الثقافي العربي، بشكل لم يشهده عصر التواصل الاجتماعي من قبل.

رغم أننا نعيش كلّ يوم أحداثًا مُزلزلة، من اليمن إلى سوريا إلى العراق إلى ليبيا وفلسطين.. مع وطأة الوباء الذي زاد الأوضاع درامية. ما يعني أننا أمام أحداث تُلزمنا بمواقف قوية، لا نرى صداها في الوسط الثقافي، مثلما كان صدى مقال سليم بركات. ولعل تفسير انتحار المثقّف، تُفيد في وصف هذا الانحدار. كما أن صفة المثقف كثيرًا ما تطلق على نماذج هجينة لا تمثّل الثقافة؛ فهي شبيهة بشعراء الخلفاء الأمويين والعباسيين وغيرهم، رغم فارق الزمن.

وربما لأننا نواجه تداخلا في تمثّلنا للمثقف، الذي ليس بالضرورة ذلك الكائن الذي تلقّى تعليمًا عاليًا، ولا يجيب إلّا على نداء يحمل صفة “الدكتور” أو “الأستاذ”. ولا ذاك الذي يتباهى بحداثة مزوّرة، يربطها بالتردّد على البارات مستعينًا بـالبيريه، ليستكمل مظهر المثقّف العصري، متحرّشًا بكل ما يؤنّث. ولا هو ذاك الذي ينتقّل بين وسائل الإعلام للحديث عما لا يعرف، مستخدما جملًا مكرّرة تتّسع لكل سياق، بـ “جبهة عريضة” لا تستحي. يُصبح معها محلّلًا وخبيرًا وعارفًا ومتخصّصًا في كلّ شيء، من السّياسة إلى الفقه، مرورًا بالفنون والآداب… يدفعُ بكلمات محشوة، تدرّب عليها أمام المرآة، لمدةٍ تكفي ليقتنع الصّحفيون الكسالى، بأنّه الضّيف المثالي للتّعليق على كل حدث كيفما كانت طبيعته. إنّه الوحيد الذي يجلس بجوار الهاتف، ملبيًا كل نداء، مع قليل من الدّلال، الذي لا يعني أنّه لا يريد، لكنّه لا يرغب في أن يعتقد الآخرون أنه سهل المنال إعلاميًا. وهو أيضًا ليس المثقف الذي أصبح خبيرًا، “بتاع كُلّو”، الذي يمثل النّموذج الأبرز للمثقف العربي.

بدلًا من ذلك، سيكون من المنصف أن نُدير الدفة، ونستمع للمثقف “الهامشي”، المُستغني عن كل شيء؛ ذلك الذي باع الجمل بما حمل، لا مصلحة له في شيء، ولا أمل، ولا طموح. مثقف حزين بمآل الأمور، ومقتنع أن لا فائدة. حتى الكتابة التي يجيدها، لا تعود مهمّة، لأنّ لا قارئا في الأفق، ولا مكترثا بما يقوله. لذا من الأفضل أن يوفّر عليه العبء، ويرتاح من همّ الكتابة ويُريح وسطه الذي تحمّل غرابته، واختلافه؛ زوجته شبه الأمّية، وأمه التي لا تعرف ما يكتب، سيريحهما أخيرًا، ويلمّ كتبه من كل ركن في البيت، ويتابع مزاجه وهو يتلوّن مرات عديدة في اليوم. إنّه مثقف مهمّش بنظره، لأنّه لا يملك “جبهة” يروّج بها بضاعته، وهو مهمش في نظر الآخرين، لأنّه لا يحظى بما حظي به زميله الأول. يعرفون أنّه الأفضل، لكن بما أنه لم يروّج لنفسه جيدًا، فهو الملام عن انصراف الآخرين عنه.

هذان النوعان من المثقفين، مع تشكيلة واسعة أخرى من فصيلتهما؛ ابتداء من ذاك الذي انتقل من نِدّية السياسي، إلى مُطبّل له، من الراكض خلف الأضواء، إلى ذاك المنزوي في الهامش، المتباكي من التّهميش والإقصاء المتعمّد.. يتقاسمون جميعًا الخريطة الثقافية، لكل بلد وثقافة. في زمن أصبحت فيه وسائل التواصل “المركز الثقافي الافتراضي” البديل، مجالا للتجاذب، والاستعراض بالنسبة للبعض، والبكاء والشكوى من إقصاء ما، للبعض الآخر. من يقصي من؟ وما المقصود بالإقصاء؟ وما الذي ينتظره المثقف؟

لا يمكن التّعريج على تحديد مفهوم المثقف من دون الاستشهاد بإدوارد سعيد، الذي رأى في كتابه “المثقف والسّلطة” أو “صور المثقف”، بترجمة أشمل، أن المثقَّف هو ذلك “المحترف والفنّي الذي يفرُّ من القيود، ومن خلال أعماله يقول الحقيقة بصفة انفتاحية لا تجلب الاستياء مهما كان بوهيميًا. لأنّه ملزم بأن يُسمع صوته للناس، وأن يُثير المناقشات والاختلافات، وإن أمكن الخلافات، لأنَّ البدائل لا تتمثَّل في الخمود الكامل أو في التمرُّد الكامل”.

كما يجب عليه أن “يواجه كلِّ أنواع التّنميط والجمود، لأنَّ المثقَّف عمومًا لديه الفُرصة بأن يكون عكس التيار”.

لا يشترط إدوارد سعيد في المثقف أن يكون أكاديميًا، بل يمكن أن يكون ذلك الفار من “المواقع المخصَّصة”، لكيلا تنحصر صفة المثقَّف في أستاذ الأدب، الذي يعيش منعزلاً في خلوته، ومنفصلا عن الحياة العامَّة. بل لابدَّ أن يكون ذلك “المستقلَّ الذي لا يمكن النّيل من استقلاله”. هذا المثقف حسب إدوارد سعيد، يصعب على الحكومات أو الشّركات استقطابه، لأنَّهم لو تمكَّنوا من استقطابه، فقد بُعده النقدي.

إضافة لما سبق، هناك كاتب فرضته كتابته، ومع ذلك يُفضّل الابتعاد عن الأضواء، وعن الغوص فيما هو عام، وهناك كاتب لم تسعفه كتابته، ويبكي من التّجاهل؛ الأول يكتفي بحظوة الأدب، والثاني يعيش تعاسة فقدان الموهبة، والتّقدير المفترض في رأيه لجهوده في التعلّق بالكتابة رغم عناءها، وجَدبِ عطاءها له. إنّها الفسيفساء البشرية في تعددها وتداخلها، لكن الحَجر الكريم يُعرف ولو بين جبلٍ من الزّجاج.

Loading...